حبيبتي التي قتلها الأوغاد

حبيبتي التي قتلها الأوغاد

13 نوفمبر 2022
+ الخط -

سنتان، ولم أستطع الشفاء بشكل كامل بعد. هذا الوجع الساكن في كلّ خلايا جسدي، في داخل داخلي، في قلب قلب قلب قلبي، لا أستطيع أن أصفه بكلمة. أريد هذه الكلمة، أريد أن أجدها بشدّة، أريد أن أحدّد ما هو هذا الألم الغريب لكي أستوعبه كما أفعل دوماً. أحاول، عقلي غير قادر على إيجاد حرف من هذه الكلمة، ولا حرف.

سنتان ثقيلتان. بدأتا قبل نهاية 2020 بشهرين. تركت البلد من دون تفكير. أوّل ستة أشهر تقريباً كنت في بلد آخر، ولكنني كنت في كوكب آخر أيضاً، كنت كائناً آخر.

اعتدت أن أختنق كلّ يوم بلا شيء، أطلب الإسعاف، يأتون ويكرّرون: "لا شيء"، يذهبون. أختنق، يأتون ويذهبون: "لا شيء". قالتها لي إحدى المسعفات بعد ثالث أو رابع زيارة: "مؤشراتك الجسدية جيدة، الأرجح أنه القلق، بانيك أتاك (نوبة هلع)".

وما هذا القلق؟ وما هذا البانيك أتاك؟ ما علاقته بشيء يحاول أن يخنقني كلّ يوم؟ أشعر به في حلقي، كأنه كرة. ما هذه الخرافات التي يؤمنون بها في هذا الغرب الغريب. هناك شيء يخنقني، شيء وليس "قلقاً".

عنيدة أنا، أعرف، أعرف، عنيدة ولا يمكنني أن أقتنع بسهولة، أريد دائماً براهين، مهووسة بالقرائن. لكن العالم هنا مشغول بكورونا، المستوصفات مغلقة أصلاً، الناس يموتون في المستشفيات المكتظة أصلاً، الشوارع فارغة، ماذا تريد هذه المسعفة؟ أتريدني أن أذهب إلى طبيب في ظلّ كلّ هذا الموت وأقول له: "عندي قلق؟".

ستة أشهر وأنا أنظر إلى الكرة الأرضية من خلف غيمة. الأمر ليس مجازاً، هناك غيمة كانت في عيوني تمنعني من النظر والتركيز، تختفي لساعة أو ساعتين يومياً، وتعود لتجعل كلّ ما في عقلي ضباباً، أفقد التوازن، تنفصل حواسي عن أعضائي، يُصاب نصف وجهي بما يشبه الشلل، أجلس بصمت على الكنبة، وأحاول أن أفهم كنه هذا الوجع.

اكتشفت خلال حياتي داخل الغيمة أنني سريعة التعلّم، وعقلي أصبح يصدر الأوامر بطريقة مختلفة. كنت أحاول الإفلات من قبضة الوجع، قلت إنه ربما قد أرى بشراً يوماً ما في حال انتهى إغلاق كورونا، هربت إلى تعلم الإنكليزية، حصلت على علامة تؤهلني إلى دخول الجامعة خلال أربعة أشهر فقط.

هناك غيمة كانت في عيوني تمنعني من النظر والتركيز، تختفي لساعة أو ساعتين يومياً، وتعود لتجعل كلّ ما في عقلي ضباباً، أفقد التوازن، تنفصل حواسي عن أعضائي، يُصاب نصف وجهي بما يشبه الشلل

حاولت أن أعبّر عن إعجابي بما فعلته، لكن هذه الغيمة تخترق عينيّ إلى خلايا رأسي، إلى أذني، إلى فمي، لا أحبّ هذه الغيمة التي تمنعني من مكافأة نفسي كما كنت أفعل دوماً. موجعة، والأبشع أنني لا أفهم سبب وجودها.

حاولت إقناع نفسي بأنني بخير، قرّرت إجراء مقابلات، ثم هربت أكثر من مرّة، هذه الغيمة اللعينة الغريبة، وهذا الشيء المستقر في حلقي يمنعني من قول أيّ كلمة. أجريت مقابلة مع إذاعة في بلد عربي بعيد، قلت: "أريد أن أجرب ما يمكن أن تفعله هذه الغيمة حين تواجه البشر". لم أستطع، فقط شتائم تريد أن تخرج من فمي، أقمعها فتصبح غضباً وتوتراً وتعصيباً يهزّ كلّ نقطة في جسدي.

حاولت أن أكتب خلال السنتين الماضيتين عمّا يحصل معي لكي أفهمه، كما أفعل الآن، كانت النتيجة صفحة كاملة من الشتائم.

فتح البلد الغريب جزئياً، اتصلت بالمستوصف لإجراء فحوصات، أكدت الطبيبة ما قاله طبيب في بيروت قبل أن أغادرها: "ربما هذا ربو". "ربما" هي كلمة غير موجودة في قاموس عقلي، حتى لو كانت تسيطر عليه غيمة.

ذهبت إلى طبيب آخر، حسمها: "هذا قلق، لا يوجد ربو، صدرك لا يصدر صوت صفير، ولا يوجد أيّ مؤشر للربو". لجأت إلى محركات البحث، "ما عوارض القلق؟". وبدأت المعلومات تظهر، قرأت تجارب الناس، كلّ ما يحصل معي حصل معهم. بدأت الغيمة تصغر. اتصلت بالمستوصف مرعوبة: "لدي قلق ونوبات خوف، أرسلوا لي ما لديكم من معلومات عن هذا الأمر".

أرسلوا. فهمت.

موجوعة. مهامي الوظيفية في الجريدة هي الشيء الوحيد الذي أبقاني على قيد الوعي طوال هذه الفترة. مهامي البعيدة عن كتابة ما يجول في عقلي. أصلاً لا شيء يخرج من عقلي إلى الورقة، هذه الغيمة الثقيلة تحوك كلّ كلمة أحاول كتابتها وتنهي محاولاتي بجولة بكاء طويلة.

غير قادرة على إخبار من أحبهم بما يحصل معي، كلّ هذا الوجع يصبح تافهاً أمام ما يحصل في بيروت.

ما زلت أدور الآن في هذه الحلقة من الإنكار. كتبت حتى الآن 569 كلمة، أصف ما حصل، ولكنني أدور وأدور.

هو الانفجار، هو الزعل الذي جاء من خارج أيّ توقعات نبّهت عقلي إليها لكي يتفهمها مسبقاً.

لا أنصدم بشيء عادة، لدي "حيطان" لكلّ شيء. لدي حائط بدأت في بنائه منذ سنوات مع بدء كل علاقة، يحميني من تبعات أي نوع من الصدمات. حائط يحميني من الإحباط بعد كلّ جولة من جولات الانتفاضة. حائط يحميني من صداقات سامة. حائط يساعدني على منع الأشخاص أصحاب الذبذبات السلبية من التأثير بي... قلبي كلّه حيطان. لكنني، لم أبنِ حائطاً يحميني من رؤية بيروت تنفجر، والحي الذي أعيش فيه ينفجر، وجيراني وأناس كنت ألتقيهم كلّ يوم في الشارع، وشابات وشباب كنت أراهم في المحال والمقاهي والمطاعم.

الانفجار أصاب قلبي مباشرة. هذه الـ"أصاب قلبي" غير دقيقة حتى، لا أعرف تماماً ما الذي أصيب، لأنّ ما شعرت به من وجع قبل دخولي في مرحلة العلاج النفسي، ومن ثم اقترابي من الشفاء، ما شعرت به لا يرتبط فقط بوجع في القلب. كلّ خلية في جسدي كانت فيها غيمة.

لم أصل بعد إلى مرحلة رمي كلّ ما في عقلي على ورقة. ما أكتبه الآن هو فقط لأقول لكم إننا كثر.

 أنتم الذين اختفيتم فجأة من كلّ مشهد. أنتم الذين تنتظرون العتمة أو الفجر لتبكوا قبل أن يشعر أحد بوجع لا تريدون لأيّ من تحبونه أن يشعر به. أنتم الذين قرّرتم ترك البلد رغم حبّكم لكلّ نقطة غبرة فيه. أنتم الذين لا تعرفون حتى الآن تفسير ما حصل. أنتم الذين تخترعون هوايات جديدة لنسيان ما حصل. الغاضبون. الصامتون. الطيبون. أنتم الذين عشتم أو تعيشون الآن في الغيمة. نحن كثر، وأريد فقط أن أغمركم ولو من خلف شاشة.

هذه الغيمة يمكن أن تصغر، وسنعود يوماً ما، لنضحك بصوتٍ يهزّ كلّ عروش القتلة، والسارقين، والتابعين، والخانعين. سنضحك في بيروت، بيروتتي، حبيبتي التي فجرها الأوغاد.

6FC158A5-E6FC-45FF-AC54-E535E4BE0348
رشا أبو زكي
صحافية لبنانية، محرّرة في قسم الاقتصاد بموقع وصحيفة "العربي الجديد".