جولة في مشوار الأستاذ علي عبد الخالق (2)

جولة في مشوار الأستاذ علي عبد الخالق (2)

20 مايو 2021
+ الخط -

يكمل المخرج السينمائي الكبير الأستاذ علي عبد الخالق حديثه قائلاً: 
بعد كده حصلت تجربة ثالثة مهمة في حياتي، وهي إنه تم تعييني في وزارة الثقافة وبالتحديد في الثقافة الجماهيرية، وكانت وقتها حاجة جديدة، وكان ماسكها الأستاذ سعد كامل واللي كان صحفي مهم، ولما أسس الثقافة الجماهيرية أو قصور الثقافة ما جابلهاش موظفين وإنما جاب فنانين تشكيليين وأدباء وتعاقد معاهم، يعني جاب هبة عنايت في أسيوط، فاروق حسني في قصر ثقافة الأنفوشي، عز الدين نجيب في كفر الشيخ، يعقوب الشاروني في أسيوط، وكل واحد من الفنانين والمثقفين دول تعامل مع قصر الثقافة اللي بيديره كإنه وزارة ثقافة خاصة، فيها مسرح غنائي وفرقة استعراضات وعروض أفلام وجماعة شعر وكتب وندوات، وكان متعين معانا السيناريست الكبير محسن زايد اللي كان دفعتي في معهد السينما. 

كان دورنا إننا نتعاون مع مستشار سينمائي لرئيس الثقافة الجماهيرية راجل محترم اسمه فريد المزداوي، كان يجيب لنا أفلام من المراكز الثقافية السينمائية في مصر ومن بعض شركات الإنتاج والتوزيع وكلها أفلام متميزة، واحنا بنشرف على عرضها للمترددين على قصور الثقافة ونعمل ندوات كان بيشارك فيها أساتذة كبار زي صلاح أبو سيف وتوفيق صالح ومن جيلنا محفوظ عبد الرحمن وأسامة أنور عكاشة وغيرهم، وكان الهدف بالنسبة لنا إننا نعلم الناس إزاي تتذوق السينما وإزاي علاقتها بالسينما تبقى مختلفة ومتطورة، وعلى فكرة كانت القاعات اللي بنعرض فيها بتبقى مليانة جدا طول الوقت.

أعتقد إن دي كانت أحسن فترة في حياة مصر من الناحية الثقافية بفضل الاستراتيجية الثقافية اللي حطها الرئيس جمال عبد الناصر، اللي في عهده تم إنشاء معهد السينما سنة 59، ولولا هذا المعهد ما كنتش هابقى مخرج، باتكلم عن تجربتي طبعاً، كان زماني موظف طالع على المعاش لأن أهلي ما كانوش يعني هيبعتوني أدرس سينما بره مصر، والحكاية نفسها هتلاقيها في معهد الكونسرفتوار ومعهد الباليه وأوركسترا القاهرة السينمائي والمسرح الغنائي والمسرح الاستعراضي والسيرك القومي، وهيئة المسرح في الفترة دي طلعت مبدعين كثيرين في مجال التأليف زي يوسف إدريس وميخائيل رومان ومحمود دياب ونعمان عاشور وعلي سالم وسعد الدين وهبة ومخرجين كتير زي كرم مطاوع وسعد أردش وجلال الشرقاوي وأحمد عبد الحليم وسمير العصفوري وغيرهم كتير، ومسارح الدولة كانت كامل العدد هي بتعرض لإن الدولة كانت رافعة شعار إن الثقافة خدمة وبالتالي مش مهم الفلوس قد ما مهم نشر الثقافة.

باستمتع بالسينما التسجيلية جدا، يعني مثلا في فيلم (السويس مدينتي) عملت تصرف غريب شوية وقتها بالنسبة للأفلام التسجيلية وهي إني ما أحطش تعليق صوتي على الفيلم

بعدها تم إنشاء المؤسسة العامة للسينما أو هيئة السينما اللي أنتجت في حوالي 10 سنين 60 فيلم منهم 40 فيلم هتلاقيهم في قائمة أحسن 100 فيلم أنتجتها السينما المصرية في تاريخها، وده يثبت إن الدولة المصرية كانت مهتمة بالسينما وشايفاها عمود خيمة، وبعد نكسة 1967 أو يمكن في أواخر 1968 توقف الإنتاج السينمائي إلا حاجات بسيطة، وسافر الفنانين بيروت، ممثلين ومخرجين ومؤلفين ومنتجين ومصورين، وكانت الصحافة بتسميهم وقتها الطيور المهاجرة، وكان منطق عبد الناصر وقتها والدولة إن كل جنيه يروح للمجهود الحربي لإن البلد بتعيد بناء الجيش اللي انهار وكان اقتصادها اقتصاد حرب، وتنبه عبد الناصر للنقطة دي واتفق مع الكاتب الكبير عبد الحميد جودة السحار اللي مسك مؤسسة السينما إنه يروح بيروت يتعاقد مع الأسماء دي كلها على أفلام عادية، لا وطنية ولا حاجة، أفلام كوميدية واجتماعية، وكان ده ناتج لإحساسه بأهمية السينما والثقافة، لإن ده في رأيي هو اللي حمى عبد الناصر في مواجهاته الشرسة مع الإخوان في سنة 1965 واللي كانت مواجهة شرسة وكان في مساندة شعبية ليه وما طلعتش مظاهرات تستنكر ده، بعكس ما شفنا في 2014 و2015 لما شفنا مظاهرات الإخوان اللي بتطلع كل يوم جمعة، لإن الناس ما كانش عندها الفراغ الثقافي والفكري اللي في رأيي نتيجة للي حصل في عهد مبارك وعدم اهتمام الدولة بالثقافة وده اللي خلى الجماعات الإسلامية تشد الشباب ليها بأفكارها المتطرفة، وده برضه اللي سند عبد الناصر في مواجهته الثانية بعد 67 لما حصلت الهزيمة، الغرب كله توقع إن نظام عبد الناصر هيسقط وعبد الناصر هيتعلق له المشانق هو ورفاقه لإن حجم الهزيمة كان فظيع وغير مسبوق في تاريخ مصر، وبالعكس طلعت مظاهرات من إسكندرية لأسوان تقول لعبد الناصر لا لا تنتحى لإن الناس كانت مؤمنة إنه رمز وطني.

بعد مرحلة الثقافة الجماهيرية انتقلت للعمل في المركز القومي للسينما وبدأت رحلتي مع الإخراج، إني أخرجت فيلم تسجيلي بعنوان (السويس مدينتي) كان عشر دقائق وحصل على جائزة الدولة، وأياميها كانت جائزة واحدة والمنافسة شرسة بين أفلام مهمة، يعني في جايزة واحدة لفيلم العشر دقائق وجايزة واحدة لفيلم العشرين دقيقة وهكذا، فكانت الجايزة بالنسبة لي مهمة، وبعدها عملت فيلم (أنشودة الوداع) عن جنازة عبد الناصر، وهو فيلم اشتغل فيه 12 مخرج، لكن لما اتعرض في مهرجان دولي مهم ومخصص للأفلام التسجيلية في ألمانيا شافوا إن أنا اللي أروح مع الفيلم، وسافرت والفيلم أخد الجنازة الفضية، ودي كانت أول سفرية ليا بره مصر.

ـ كل تجاربك في الفترة دي كانت أفلام تسجيلية ما كانش في تجارب أفلام روائية قصيرة؟

لا، كلها أفلام تسجيلية، الحقيقة عملت عدد كبير من الأفلام التسجيلية مش متأكد منه على وجه الدقة، كل شوية حد يفكرني بفيلم، وللأسف أغلبها ضاع، يعني فيلم (السويس مدينتي) قعدت كل شوية أفكر بيه رؤساء المركز القومي للسينما وأقول لهم عايزه ضروري، وفي الآخر لقوه واتعرض في كذا حتة، وكنت لسه باتكرم في جامعة السويس في حضور محافظ السويس وقائد الجيش الثاني وجابوا الفيلم وعرضوه ولقى نجاح عند الحضور.

في فيلم تاني أنا عملته وباحبه جدا وباعتز بيه ومش لاقيه وكان من إنتاج الشئون المعنوية للقوات المسلحة، اسمه (رجال وسلاح) كان من إنتاج سنة 1980، ولما جابوني في الشئون المعنوية أعمله مدير فرع السينما العميد رفعت صقر قال لي أنا بقى لي 13 سنة باحضر مهرجان باريس للأفلام العسكرية، ونفسي أطلع مرة على المنصة وأستلم جائزة، وفعلا الفيلم خد الجائزة الثانية، الجائزة الذهبية أخذتها أمريكا ومصر خدت الجائزة الفضية، وكان مشترك في المسابقة 30 دولة منها فرنسا وإيطاليا وانجلترا واليونان وكل الدول الأوروبية ودول من آسيا، وبعد ما حصلت على الجائزة كرمنا القائد العام للقوات المسلحة وقتها المشير عبد الحليم أبو غزالة، وللأسف ما شفتش الجايزة تاني لإنها اتحطت في وزارة الدفاع، يعني في أفلام تسجيلية كتيرة عملتها في الفترة ما بين سنة سبعين لسنة تمانين، حتى لما عملت أفلام روائية كنت من حين لآخر باعمل فيلم تسجيلي.

ـ يعني كنت بتستمتع بالشغل في السينما التسجيلية مش مجرد خطوة بالنسبة لك قبل ما تشتغل روائي زي ما كان البعض بيعمل؟

باستمتع بالسينما التسجيلية جدا، يعني مثلا في فيلم (السويس مدينتي) عملت تصرف غريب شوية وقتها بالنسبة للأفلام التسجيلية وهي إني ما أحطش تعليق صوتي على الفيلم، يعني كانت الأفلام التسجيلية وقتها لازم يبقى فيها رابط هو صوت المعلق على الصورة، لكني عملت فيلم مجرد صورة وموسيقى، ولو إنه لما بعثوه في مهرجانات دولية أضافوا ليه تعليق صوتي عشان الناس تفهم السياق، لإن الفيلم كان بيتكلم عن إنه بعد هزيمة سبعة وستين الناس اللي عايشة في السويس وما اتهجرتش كانت بتمارس الحياة برغم كل شيء ولما تحصل غارة إسرائيلية ينزلوا تحت الأرض في المخابئ، تخلص الغارة يطلعوا يشتغلوا، البيوت مضروبة من فوق ومتكسرة، بس العمال بيشتغلوا والناس بتمارس حياتها بيتجوزوا ويربوا عيالهم ويصلوا العيد، لكن الفيلم كما أنا كنت راضي عنه وكما عملته كان عبارة عن صورة ومزيكا بس، وبرضه الفيلم اللي خدت عليه الجايزة (رجال وسلاح) كان صورة بس ما فيهاش أي تعليق، وللأسف لحد دلوقتي مش لاقي منه أي نسخة.

ـ بعد فترة من العمل في الأفلام التسجيلية تمكنت من إنجاز فيلمك الأول (أغنية على الممر) والذي يعتبره البعض أهم أعمالك، ممكن تكلمنا عن ظروف إنجازه؟

في الفترة اللي اتخرجت فيها ولحد ما عملت أول فيلم كان الإخراج بشكل عام صعب مش زي دلوقتي، لكن في حالة (أغنية على الممر) كان الموضوع أصعب لإن الفيلم فيه جزء حربي، فكان المسئولين عن الإنتاج السينمائي يقولوا لي دايماً: يعني انت بتخرج لأول مرة وجاي تخرج فيلم حربي، أو يقولوا لي التقنيات اللي انت طالبها مش موجودة عندنا في مؤسسة السينما فهتعمل الفيلم إزاي وهتجيب التقنيات والمعدات الحربية مين، ومصر وقتها ما كانتش تعرف الأفلام الحربية أصلاً، عكس الفترة ما بعد حرب أكتوبر، لكن كنت محضّر كويس أوي وعارف هاعمل إيه، لكن مع ذلك محاولات إقناع المسئولين بدعم المشروع والموافقة عليه كانت صعبة جداً، وفضلت فترة طويلة أتردد من المكتب ده للمكتب ده ومن اللجنة دي للجنة دي، وكل شوية حد يقرا السيناريو عشان يقرر الفيلم ده يتعمل ولا ما يتعملش فخدت فترة طويلة جدا، وكان ممكن أيأس لولا الدعم اللي تلقيته من مجموعة من الأصدقاء السينمائيين.

ـ تقصد أصدقاءك في (جماعة السينما الجديدة)؟

بالضبط، ولو إن الصداقة كانت سابقة على إنشاء الجماعة السينمائية دي، يعني فكرنا إن بدل ما نقعد نتكلم على القهوة عن السينما، يبقى لينا شكل شرعي ونعمل جمعية ويتم إشهارها وتبقى مسجلة في وزارة الشئون الاجتماعية، ونعمل ندوات ونجيب أفلام، وكان نشاط الجمعية في الأول كله ثقافي ونقدي لإن كان معانا نقاد زي سمير فريد وفتحي فرج وسامي السلاموني، والحقيقة عرضنا وشفنا أفلام مهمة جدا في الفترة دي، كان في مقر أخدناه من الدولة اللي هو مكتب الصورة المرئية في 36 شارع شريف في وسط البلد، وكنا بنعرض فيلم كل يوم ثلاثاء.
يعني مثلا جبنا أفلام شكسبير في السينما العالمية، اللي هي مأخوذة عن مسرحيات شكسبير، كان في مجموعة سينمائية في تشيكوسلوفاكيا وقتها اسمها مجموعة أو مدرسة براغ، كانوا عملوا ست أفلام عن مسرحيات شكسبير والنظام الشيوعي الحاكم أعدم الأفلام دي بعد ما منعها، لكن المركز الثقافي التشيكوسلوفاكي في القاهرة كان عنده نسخ من الأفلام دي نجت من الإعدام، فقدر سمير فريد يجيب لنا الست أفلام دي، وكان من المخرجين المعروفين في الفترة دي أو أشهرهم ميلوش فورمان اللي هرب بعد كده من النظام الشيوعي، وراح عاش في أمريكا وبقى من أهم المخرجين العالميين وعمل أفلام خدت الأوسكار واترشحت ليه زي أماديوس وطار فوق عش المجانين وغيرها.

...

نكمل الحوار الأسبوع القادم بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.