جدّة "سلفادور دالي" كانت سوريّة!

جدّة "سلفادور دالي" كانت سوريّة!

16 اغسطس 2021
+ الخط -

ما أكثر المرات التي سُئلت فيها عن سبب حبي للاذقية وتعلقي بها، وما أكثر تنوع الأجوبة التي تختلف باختلاف السائل! وليس ذلك من باب الكذب أو الافتراء ولكنني أحبها لأسباب عديدة..

لهذا أنتقي في كل مرة سبباً من بين هذه الأسباب يستطيع السائل أن يقتنع به، فهي المدينة التي  قررت الانفصال عن أهلي لأستقر فيها فأعطتني مساحتي الشخصية التي أرغب، المدينة التي علمتني كيف أكون نفسي الحقيقية لا نسخة عني تسعى لإرضاء المحيطين بها، المدينة التي توقفت فيها عن البحث في عيون الآخرين عن مرآة تناسبهم لتعكس شخصيتي من خلالها، المدينة التي جمعتني بأجمل الأشخاص الذين عرفتهم في حياتي..

فيها اختبرت لذة الصحبة الحلوة والليالي المضاءة بضحكات الأصدقاء ولمعة عيونهم، فيها عرفت للمرة الأولى أن الحياة ليست عادلة وأن زجاج نوافذ بيت أهلي كان وردياً وكوني كنت أنظر إلى الحياة من خلاله فقد خُدعت بألوانها، وأن العصافير في الحياة الحقيقية لا توقظ الناس بل يوقظهم صوت عصافير بطونهم الفارغة، وقرقرة معدات أولادهم التي قلصها الجوع إلى ربع حجمها الطبيعي..

أدركت أن الظلم لا حدود له، ولا رادع يقف في وجهه، وميزت بين طريقتين يلجأ إليهما البشر للتعامل معه، فهنالك الواقعي الذي ينغمس من أخمص قدميه حتى رأسه بواقعه المزري ينام ويستيقظ وهو يحفر بأظافره الأرض بحثاً عن ملجأ أو خلاص، وتظل عيناه مفتوحتين على اتساعهما تلتقطان صور الواقع بكل قبحه لتُخزَّن تلك الصور في الذاكرة وتشكل وعياً للمحيط لا يمكن التملص منه، وبعد أن يضنيه العراك مع أشياء لا قوة أو سلطة له عليها يكتفي بقوله: "يلعن أبو الفقير وعيشتو!" متبوعةً بحمد الله وشكره على كل حال.

إذا كانت لك أذن موسيقية حساسة، ستسمع أغاني مكتومة تتردد بين التصدعات، أغاني كتمها الخوف والجوع والأحلام المخفية تحت سابع أرض، الأحلام التي تجري الأمهات مرعوبات ليلاً لإبعادها عن منامات أولادهنّ قبل أن تعرف عنها وسائدهم

أما النوع الثاني فهو السريالي الذي يفرط في التعلق بأحلامه هرباً من الواقع، كصديقي الذي تجاوز عمره الخمسين، وقد قضى كل السنوات الفائتة يتأرجح بين حلم وآخر ورغم ذلك ما زال مستغرباً مستوى اللاواقعية الذي وصلت إليه حياتنا، ولأنه يعتقد أنه في ظل هذا الواقع الذي يفتقر إلى الواقعية، قد يكون الشعر هو الحل فإنه يلجأ إليه للهروب، فإذا حالفك الحظ وزرت بيته يوماً ودخلت إلى غرفة المكتبة ستجد بين رفوف الكتب قنينة ماء عليها ملصق يحمل عنوان "نهر النيل"، وأخرى بعنوان "نهر دجلة"، وإلى اليمين قليلاً ستجد وعاء فيه حفنة من التراب بعنوان "بغداد"، إذ يعتقد أن أعظم هدية يمكن لمسافر أن يحضرها معه لصديقه هي البلاد التي كان فيها، إن حدث وسافر هذا الصديق إلى بلد آخر سيحمل معه لمعارفه هناك ورقة بيضاء مطوية تمثل حكاية بلد ما زال يحاول أن يكون بلداً.

هناك تعلمت كيف أودع أصدقائي المسافرين وأنا سعيدة لأنهم سيحظون بحياة أفضل، بل في الحقيقة أخيراً يراودني حلم بشكل متكرر حيث أجد نفسي على شاطئ أجهله وبيدي منديل ملون ألوح به لسفينة تبتعد عني رويداً رويداً وعلى سطحها عشرات الأيدي التي تلوح لي بالمقابل ويعتريني في لحظتها شعور بالحيرة، "لمن كل هذه الأيادي؟"، لكنني عندما ألتفت لأعود أدراجي أجد أمامي عشرات العائدين وهم يجرون وراءهم مناديلهم المنهزمة، لأدرك أنني لست وحدي من تودع حبيباً أو صديقاً، وأن روتين حياتنا في هذا البلد متشابه على نحو لا يصدق، روتين يتراوح بين الانتظار والغضب الذي تعجز ملامحنا المكسورة عن إخفائه، الأيادي الملوحة بعيون جافة، والابتسامات المتيبسة كجروح عميقة فوق شفاهنا، لسنا سوى مجموعة من الهاربين من أشياء تضاف إلى رصيد هروبنا مع كل صباح، ولكثرة ما هربنا أصبحنا نشعر أن الحياة تركض خلفنا كوحش هائل يتوق لابتلاعنا في اللحظة التي نتوقف فيها لنلتقط أنفاسنا.

قد يبدو لك أن بلاداً بحالها تركض مشهد مفرط في المبالغة، لكنك لو عشت هنا لأدركت أن كل المصطلحات الرنانة التي نسمعها يومياً مثل "الاشتراكية"، "الوطنية"، "الديمقراطية"، وغيرها ليست سوى كلمات تشرّبتها عقول الناس وتتردد على ألسنتهم منذ زمن لشدة قدمه لم يعد بإمكانهم تحديد بدايته، وكما كل الأشياء التي توجد بكثرة فقد توقفوا عن التساؤل عن أصل هذه المصطلحات ومعانيها وعن سبب استخدامهم لها، ولكن الاصطلاح الوحيد الذي يعيشونه على أرض الواقع دون أن يدركوا ذلك هو "السريالية"، مدينة لكثرة سرياليتها لا يمكن أن تقنعك بوجودها بسهولة، إن لم تعش فيها وتشهد أكبر الخناقات التي تحدث على حاويات القمامة، إن لم تتعلق قهرياً بالصباحات التي تقضيها خلف نافذتك تجاهد لتبدأ يومك وأنت تحاول أن تجبر نفسك على غض البصر عن الحيرة والعجز اللذين يتجولان بحرية بين وجوه العابرين وتفشل، إن لم تتشكل هالات سوداء عميقة تحيط جفنيك من الجهتين لكثرة الليالي التي سهرتها أمام صنبور الماء تجتر شعور القهر والذل وتنتظر قطرة واحدة تروي عطشك، إن لم يضعف سمعك وتتغير آلية تلقي أذنيك للأصوات المزعجة لينتقل صوت مولدات الكهرباء من حيز الإزعاج إلى حيز الأصوات المألوفة، إن لم تختبر كل ذلك فإني أتمنى لك أن تظل عاجزاً عن فهم هذه السريالية.

رغم ذلك إن حدث وزرت بالصدفة مدينتنا فإنني أدعوك لتشاركني وأصدقائي واحدة من سهراتنا، فنجلس في إحدى الحدائق نتبادل الأغاني وترتفع أصواتنا بألحان تعود لأزمان وأماكن مجهولة نتوق لها، وأضمن لك أنك ستقضي وقتاً من أجمل أوقات حياتك لكنك لن تستطيع توثيقه بصورة، بسبب انقطاع الكهرباء ولأن الكاميرات لا يمكنها التقاط صورة للصوت، وفي أثناء مرورك في شوارعنا إذا وضعت رأسك على جدار من جدران هذه المدينة وأنصتَّ جيداً، إذا كانت لك أذن موسيقية حساسة، ستسمع أغاني مكتومة تتردد بين التصدعات، أغاني كتمها الخوف والجوع والأحلام المخفية تحت سابع أرض، الأحلام التي تجري الأمهات مرعوبات ليلاً لإبعادها عن منامات أولادهنّ قبل أن تعرف عنها وسائدهم، فحتى الوسائد هنا لها آذان يُخشى منها، وشفاه تنطق بما لا يجب أن يُنطق به.

دلالات

CFADE90B-5821-4C8B-9B3B-7BD856FDAFCD
هزار الحرك

صحافية سورية. عملت خلال فترة تزيد على 15 عامًا في إعداد وإنتاج البرامج التلفزيونية والأفلام الوثائقية، ودوبلاج أفلام الكرتون المصورة لقنوات متنوعة، ثم انتقلت إلى العمل الصحافي المكتوب، ونشرت مقالات عدة تتناول الواقع الاجتماعي والثقافي والفني في سورية، وبلدان المهجر. تؤمن بدور الثقافة والفن في تغيير الواقع المأساوي، وتحلم بسورية حرّة، خالية من كل صنوف الاستبداد.

مدونات أخرى