الوحدة كائن مستقل يعيش معي في بيتي

الوحدة كائن مستقل يعيش معي في بيتي

30 مايو 2021
+ الخط -

يقولون إن لكل إنسان أربعين شبيها، ولكن أشباهك الأربعين و7.8 مليارات بشري في هذا الكوكب، لا يمكن لهم أن يقتلوا شعورك بالوحدة، فالكائنات البشرية كائنات معطوبة مسكونة بالمخاوف والقلق، فمنذ أن غادر البشر كهوفهم قبل آلاف السنين، وهذّبَهم التطور وخلق لديهم مفهوماً جديداً يدعى "المشاعر"، وصار الحب عاملاً أساسياً يحركهم ويدفعهم باتجاه اصطفاء الشريك المناسب، ظهرت الوحدة كواحدة من أشيع المخاوف التي يعانون منها.

بالنسبة إلي فالوحدة كائن مستقل يعيش معي في بيتي يرتدي ملابسي ويغير قنوات تلفازي كما يحلو له، وقد يستيقظ هذا الكائن ليلاً وهو يشعر بالقلق فيفتح باب برادي ويقتات على طعامي، وإذا كان مكتئباً لا يخجل من التهام علبة المثلجات التي ادخرتها لحالات الكآبة العابرة التي تعتريني بين الحين والآخر، الوحدة عجوز مجعدة الوجه، تعاني من آلام في الظهر تختبئ خلف انعكاسي في المرآة، هي صورة معلقة على جدار مستقبلي وضعتُ عليها وشاح شبابي لأتناساها ولكن ذلك لا يعني أنني ألغيتها، هي الضوء الذي ينتظرني في نهاية النفق ليقودني إلى ظلام دامس.

في الحقيقة لقد تأقلمت مع وجود هذا الكائن في حياتي، وبدأت أستمتع بمجالسته بين الحين والآخر، فرغم كل شيء لا يمكنني تجاهل كائن يشاركني بيتي تجاهلاً تاماً، فكثيراً ما يحدث أن نتصادم في ممرات المنزل، أو نتجادل حول حرارة مكيف الهواء المناسبة لكلينا، وفي النهاية ليس شريكاً سيئاً أو لا يمكن التخلص منه، أو هذا ما تجعلني علاقات الحب أعتقد به!  فمع بداية كل علاقة جديدة أحضر صندوقاً صغيراً أضع فيه وحدتي وأقفل عليها، ثم أخفي الصندوق تحت السرير كحذاء قديم، وأطمئن.

كما في كل مرة أعود إلى دائرتي المغلقة وأحاول أن أتصرف بعقلانية، وأن أقنع وحدتي بضرورة عودتها إلى الصندوق، وبأنني فعلاً أريد لهذه العلاقة أن تنجح!

لكن، بالرغم من تكرار الأمر، ومن المرات الكثيرة التي أثبتت لي الوحدة أن حضورها في حياتي أقوى من أي حضور آخر، وأن صناديقي الكثيرة المكومة تحت السرير لن تصمد طويلاً، لكنني أستمر بتكرار الأمر بسذاجة وكأنني لا أعرف أن هذا الكائن الذي خبأته سينمو، ويكبر، وأن صندوقي الصغير سينفجر ليصير حراً يتجول على راحته ويتصرف كما يحلو له، ولا أتذكر ذلك إلا عندما أستيقظ فجأة من نومي وأنا أشعر بثقل على صدري، تكون تلك وحدتي التي تجاهلتها فترات طويلة، تحررت من قيودها وجاءت لتنام بقربي تحضنني وتضع يدها الثقيلة على صدري، وتهمس لي: إنه وقت مناسب لإنهاء علاقتك الغرامية. أرتبك، أقوم من السرير لأنني أعرف لحظتها، ونتيجة تكرار الأمر، أن النوم قد غادر عينيّ إلى أجل غير مسمى، أفتح هاتفي وأحاول أن ألهي نفسي ببعض الموسيقا، أشغل قائمة "المقطوعات الأكثر تشغيلاً" في قوائم التشغيل الخاصة بي، فتصدح مقطوعة "Dark was the night, Cold was the ground" وأسمع همهمات Blind Willie Johnson فيبدأ عقلي باستحضار حكاية هذا الرجل، وأتذكر أن وحدته كانت سبباً في موته، إذ قضى نحبه في بيته محترقاً، لأنه كان أعمى ووحيدا فلم يجد يداً تقوده إلى المخرج وتنجيه من الحريق، مات مخنوقاً بوحدته، وقد أرسلت هذه الأغنية بالتحديد ضمن سجلات Voyager Golden Records التي تم تضمينها على متن المركبة الفضائية فوييجر عندما أُطلقت في عام 1977 إلى الفضاء، وأن السبب وراء تضمين هذه المقطوعة على وجه الخصوص هو رغبة البشر الدفينة بالتخلص من الوحدة، إذ اعتقد القائمون على إعداد هذه السجلات أن مقطوعة كهذه قد تبين لأهل الفضاء حجم الوحدة التي يعاني منها البشر في كوكبهم، وحاجتهم إلى معرفة أنه ثمة كواكب أخرى تسكنها كائنات تستطيع أن تفهم موسيقاهم وتشعر بهم.

وكما في كل مرة أعود إلى دائرتي المغلقة وأحاول أن أتصرف بعقلانية، وأن أقنع وحدتي بضرورة عودتها إلى الصندوق، وبأنني فعلاً أريد لهذه العلاقة أن تنجح! أجلس أمام النافذة أشعل السيجارة الوحيدة التي خبأتها بعد أن أقلعت عن التدخين لأنني كنت أتوقع أن أعود إليه عاجلاً أم آجلاً، أضع أمامي كرسياً آخر وأنادي وحدتي لأحاول أن أحاورها فإما أن أقنعها بالذهاب أو أتأقلم مع وجودها، ولأنني أعرف أنها متحدثة بارعة، وأنني -ككل مرة- لن أستطيع الفوز بأي جدال معها، أحاول أن أسلي نفسي بحكاية الموسيقا التي أرسلت إلى الفضاء فيبدأ عقلي بالانشغال بالكائنات الفضائية، أحاول أن أكوّن صورة في خيالي عن أشكالهم وحياتهم ولغاتهم، لينتقل تفكيري إلى نقطة ثانية، وهي اللغة، أفتح محرك البحث غوغل وأكتب: "ما هي أغرب اللغات في العالم؟"، ومنها أنتقل إلى "أكثر اللغات تحدثاً على مستوى العالم"، وهكذا أستمر بالانتقال بين المواضيع المختلفة التي تثير اهتمامي، أعد كوباً من القهوة وأسرح بالأفكار، وأنسى ما أيقظني بالأساس، وعندما تبزغ أضواء النهار أدرك أن وحدتي قد انتصرت مجدداً، فأتصل بالرجل الذي كنت أريد إنجاح العلاقة معه، وأقول له: صباح الخير، يجب أن نتكلم!

دلالات

مدونة من سورية
هزار مخايل
مدونة سورية... خريجة كلية الآداب قسم اللغة العربية.نشرت رواية مطبوعة بعنوان (رقص حتى الاحتراق). وحاليا أكتب مقالات في بعض المنصات الإلكترونية وأعمل على روايتي الجديدة