القضية الفلسطينية وحالة الذهول العربي

القضية الفلسطينية وحالة الذهول العربي

12 مايو 2023
+ الخط -

لطالما كان دأبنا في الوطن العربي المسارعة للتفاعل والاهتمام بالأخبار والمستجدات المتعلّقة بالقضية الفلسطينية، إذ كانت هذه القضية دائماً أولويتنا، وعنوان اهتماماتنا منذ عقود من الزمن. لكن في السنوات الأخيرة، وخاصة بعد "الربيع العربي"، تحوّلت القضية الفلسطينية إلى عنوان ثانوي عند بعض الشعوب العربية، فلا اهتمام مستمر، ولا اشتغال عليها، عنواناً جامعاً لتوحيد الناس وإحياء رغبتهم في التحرّر. ربما لهذا ما يفسّره في واقع مأزوم موغل في البؤس في أغلب الأقطار العربية، تُحدّد ملامحه الحروب الطائفية والتقاتل الأهلي والأزمات السياسية والاقتصادية...

كانت القضية الفلسطينية لسنوات، هي العنوان الأبرز في كلّ تحرّك سياسي أو ثقافي في تونس، حتى في سنوات الاستبداد والانغلاق السياسي، وتكثّف هذا الحضور بُعيدَ الثورات العربية التي اندلعت مع نهاية سنة 2010، في سياق أشواق التحرّر والكرامة. لكن دوامة الصراع السياسي وحالة الاستقطاب الهُوَوِي التي غيّمت على البلاد، بدّدت تلك الأشواق وحضر "اليومي" بتفاصيله ليغطّي على ما دونه، بلا رؤية واضحة، ولا تصوّر مضبوط، فظلّت القضية الفلسطينية عنواناً لأنشطة ثقافية في دوائر محدودة، أو عنواناً للتحشيد المغشوش في سياق مزايدات سياسية تتخذها بعض الأحزاب السياسية أو النقابات العمالية، قاعدةً للتفرقة والفُجر في الخصومة والتصعيد النفسي. 

أما فيما يتعلق بالشارع التونسي، فالاهتمام مناسباتي، لكنه رغم ذلك صادق ومخلص للجينات الثقافية الأولى التي تشكّل الوعي الجمعي، بما يعني ذلك من أواصر أخوّة وتضامن وتعاطف مع إخواننا الفلسطينيين ضد ما يرتكبه الاحتلال. وهذه المساندة ترِدُ في وعي الناس ضمن دائرة "الحنين"، بما هو استحضار واستدعاء للتاريخ وللروابط الثقافية وللمشترك الحضاري، بغضّ النظر عن قدرته على التحوّل إلى وعي استراتيجي يشكّل المستقبل ويصنعه. 

من لا يجيد تحديد مستقبله سيجد نفسه أداة تتقاذفها القوى التي تدافع عن مستقبلها ومستقبل أبنائها

في هذا الصدد، أعتقد أنّ تحويل هذا الحنين وهذه الأشواق التي في صدور الناس إلى قوة ووعي، هو أمر يستجيب لحركة التاريخ، خدمةً للمستقبل، وصياغةَ رؤية يتضمّنها دور النخب الوطنية وواجبهم، وهنا مكمن المشكل ومحلّه. إذ لم تقدر النخب الوطنية، والعربية عموماً، على القيام بدورها كقاطرة تدفع الشعوب للحلم بمستقبل أفضل، فتُحيي شعور الانتماء للوطن، بما يعنيه من أمن قومي ومصلحة مشتركة وفعل مواطني، ضمن أفق إقليمي تستفيد منه الشعوب العربية على قاعدة التنوّع الثقافي وتبادل المنافع، وانجذاباً لأفق إنساني يكون التفاعل فيه بين الأمم قائماً على الاقتدار والتعارف كسنة كونية تُنير الفكر وترشّد الفعل وتُنمّي الواقع.

لقد ظلّت النخب العربية تعاني حالة من الذهول والتفكّك بين محاولة تجاوز الدولة القُطْرية/ الوطنية باعتبارها واقعاً ماثلاً يقاوم السير نحو الأمة "كفكرة مُتخيّلة" ذات ملامح غائمة، وبين الاستغراق في الواقع المحلي بدون أفق مشترك، مع رغبة جامحة في القفز على الجغرافيا والتاريخ، بما هو ذاكرة وأشواق ومكوّن أساسي للثقافة والخيال، فكانت النتيجة دولاً مفكّكة في بنيتها الأساسية، ومعرّضة للاختراق ولكلّ أنواع الخراب (الفتن الطائفية، الحروب الأهلية، الانقلابات، المجاعة والأزمات الاقتصادية...). رغم كلّ هذا، فإنّ التاريخ لم يكف عن تقديم الإشارات والدروس بشكل مستمر، ليذكّرنا بأنّ حالة الوهن المحلي لا تصنع أمة، وأنّ النجاة لا تكون فردية، و"الاستثناء" لا يصمد ضمن عواصف تُحيط به، فلا يعيرها اهتماماً ولا يعبأ بها.

إنّ تحرير فلسطين سيكون بأيادي المقاومة الشعبية التي أثبتت أنها تقاوم خارج حسابات المهزومين وتصنع معادلتها الخاصة

وتظلّ الفكرة التوفيقية من منظوري الشخصي (التي تقرّ بالدولة القطرية واقعاً وتتخذها قاعدة صلبة للفعل والإصلاح، وذلك بأفق إقليمي يعطي الأهمية لمعطيات الجغرافيا السياسية والتقارب بين الأمم القوية على أساس المصير المشترك واستقلال القرار) هي الطريق للدفاع عن المستقبل بعقل يفهم نواميس التاريخ ويستشرف حركته. إنّ هذه التوفيقية إذا ما تأسّست على رؤية تحرّرية تشتغل على عناوين السيادة الوطنية والنموذج السياسي والعدالة الاجتماعية وقضايا التنمية، كمباحث وموضوعات علمية، ستُعيد للفعل السياسي ألقه وجدواه، فتحصّنه من العبث وتقوّض شروط الاختراق والتوظيف، فمن لا يجيد تحديد مستقبله سيجد نفسه أداة تتقاذفها القوى التي تدافع عن مستقبلها ومستقبل أبنائها.

إنّ حضور هذه الفكرة في أذهاننا قد يطرح سؤالاً جوهرياً عن موضوع ترتيب الأولويات، وهل أنّ حالة اللامبالاة في العلاقة بمستجدات القضية الفلسطينية والتحوّلات الاستراتيجية في معادلة المقاومة (أساساً في صفوف النخب) تخدم واقع دولنا أم تزيده تعقيداً؟ وهل موكول لنا فعلاً تحرير فلسطين أم هي النموذج الذي سيحرّرنا؟ 

من الضروري طرح هذه الأسئلة والبحث عن إجابات دقيقة تضع القضايا السياسية والاستراتيجية والتحوّلات الإقليمية والدولية تحت مجهر التفكيك والفهم العلمي الدقيق. وهنا سأحاول تقديم ملاحظات قد تساهم في بلورة الجواب:

أوّلا، إنّ فهم التحوّلات الإقليمية والمنطق الذي يحرّك السياسات الدولية تجاه منطقتنا العربية (الشرق الأوسط وشمال أفريقيا)، مرتبط جوهرياً بمصلحة الكيان الصهيوني ومستقبله، لذلك لا يمكن فهم واقع دولنا بغضّ النظر عن هذا الجانب.

هذا التيه العربي الذي نعيشه منذ عقود ليس قدراً حتمياً، ولا هو مؤامرة تُحاك ضدنا بقدر ما هو نتيجة طبيعية لحالة من الوهن والخيال المهزوم العاجز عن تخيُّل المستقبل

ثانياً، التحوّل الجوهري في مقدرات المقاومة وقدرتها على ردع العدو وتحديد قواعد الاشتباك وزمانه ومكانه بعقل موحّد (محور مقاومة تقوده غرفة عمليات مشتركة)، إلى جانب التغيّرات الديمغرافية لصالح الفلسطينيين في مقابل المستوطنين، ما يجعل فرص التحرير ممكنة وواردة، ناهيك عن حديث قيادات إسرائيلية عن تخوّفات جدية من تفكّك المجتمع الإسرائيلي، وما يسمونها "لعنة العقد الثامن". كلّ هذا يجعل اليقظة الاستراتيجية ضرورية لتحويل "الانتصارات الممكنة" إلى فرص حقيقية للتغيير والبناء، حتى لا تداهمنا الأحداث كما داهمتنا في شتاء 2011، ونحن دون تنظير سياسي، فحدّدت "الصدفة" لنا مستقبلنا.

ثالثاً، هذا الوعي المتقادم لدى بعض النخب، بأنّ تحرير فلسطين يمرّ عبر تحرير الأقطار العربية من الاستبداد، ثم التأسيس "لوحدة عربية"، تقود حرب تحرير هو أمر أشبه ما يكون بالخيال، أو هو نتيجة وعي شكّلته هذه الشعارات في سياقات تاريخية مختلفة عن السياق الحالي، لذلك يجب أن ننبّه بأنّ تحرير فلسطين سيكون بأيادي المقاومة الشعبية التي أثبتت أنها تقاوم خارج حسابات المهزومين، وتصنع معادلتها الخاصة، وتفرضها على عدوّها بأدواتها الخاصة، وهذا في حدّ ذاته يمثل نموذجاً سياسياً وجب التفكير فيه مثالاً للفكرة التي تُملي على الناس أفعالهم، وتُحيي فيهم شعورَي الانتماء والحلم.

هذه الموجّهات الثلاث يمكن أن تكون مقدّمات لتفكير جماعي مُمكِن، قد يكون مقدمة لتخيُّل المستقبل، فكرياً، واجتماعياً، وثقافياً، فتكون الأولوية للتفكير والتنظير السياسي، وتكون الرؤية خزّاناً للتصوّرات والاستراتيجيات التي ستترجم فيما بعد إلى سياسات. إنّ هذا التيه العربي الذي نعيشه منذ عقود ليس قدراً حتمياً، ولا هو مؤامرة تُحاك ضدنا، بقدر ما هو نتيجة طبيعية لحالة من الوهن والخيال المهزوم العاجز عن تخيُّل المستقبل، نتيجة لصيرورة تاريخية تنتبه لعقل التاريخ، وتفهم فلسفة حركته. ما يجب أن نفهمه أنّ التاريخ لا يأتي بالمعجزات، وأن الأمم لا تنهض لمجرد اعتقادها بأنها على حق أو خير. كلّ ما في الأمر، أنّ التاريخ مجال حركة واستجابة، والفرص لا تُتاح دائماً، لذلك يتوجّب علينا، أن نكفّ عن الذهول، وأن نفكّر في مستقبلنا عوض أن يفكر لنا غيرنا.

السنوسي
أحمد بن لطفي السنوسي
طالب هندسة و كاتب صحفي تونسي. صدر له العديد من المقالات في مواقع وصحف إلكترونية مختلفة. يعرّف نفسه بالقول: "إذا حكمت خيال الناس دنيا فإني يحكم الدنيا خيالي".