التطبيع المغربي: خسائر ثابتة وأرباح موعودة

التطبيع المغربي: خسائر ثابتة وأرباح موعودة

21 فبراير 2023
+ الخط -

بدخوله العام الثالث من التطبيع الكامل للعلاقات مع دولة الاحتلال الإسرائيلي؛ يواصل المغرب إحصاء خسائره المباشرة وغير المباشرة الناجمة عن هذه الخطوة-الصدمة، في وقت لم تلح فيه بعد أية بوادر للمكاسب التي يتهامس بها المؤيدون للخيار التطبيعي الذي جرى من خلال اتفاق ثلاثي مغربي-أميركي-إسرائيلي.

فمنذ تلك اللحظة التي مازال جزء من المغاربة عاجزاً عن هضمها، والتي تم فيها توقيع اتفاقية ثلاثية بين الدولة المغربية في شخص رئيس حكومتها السابق سعد الدين العثماني، ووفدين رسميين يمثلان كلاً من الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية؛ اشتعلت الكثير من النيران الدبلوماسية والاقتصادية حول المغرب، وباتت المملكة تواجه مخاطر كبرى تهدد تموقعاتها الإقليمية والدولية السابقة، في وقت لم تتحقق فيه أي من الوعود التي جرى تمريرها بطرق رسمية وغير رسمية، لتبرير هذه الخطوة التطبيعية.

أهم "مقابل" استعمل لتبرير الإقدام على خطوة إعادة العمل بعلاقات دبلوماسية رسمية بين الرباط وتل أبيب، يتعلّق بملف الوحدة الترابية للمغرب وقضية الصحراء العالقة في دواليب منظمة الأمم المتحدة منذ ما يقارب نصف قرن.

تغريدة نشرها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في الرمق الأخير من ولايته، اعترف من خلالها، وعبر إعلان رئاسي نافذ ترجمته الخارجية الأميركية، بحذف تلك الخطوط المتقطعة التي كانت تفصل شمال المغرب عن جنوبه في الخرائط المعتمدة رسمياً لدى الإدارة الأميركية؛ هذا كل ما حققه المغرب حتى الآن من وراء هذا الاتفاق الثلاثي، علماً أنّ الخطوة لم تشكل تحوّلاً جذرياً في الموقف الأميركي من ملف الصحراء، إذ كانت الوثائق الداخلية للإدارة الأميركية تتحدث عن حتمية الحل الذي يعترف بالسيادة المغرب ويحفظ ماء وجه الجزائر (تؤيد انفصال الصحراء)، منذ أواخر عقد الثمانينيات، كما تحتفظ بذلك سجلات الأرشيف الرسمي الأميركي.

كما أنّ هذا الاعتراف الرسمي للإدارة الأميركية بمغربية الصحراء لم يتجاوز حدود مقاطعة كولومبيا (واشنطن العاصمة)، ورغم انعقاد اجتماعين رسميين لمجلس الأمن الدولي، وإصدار هذا الأخير قرارين جديدين حول ملف الصحراء عقب الاعتراف الأميركي، إلا أنّ موقف واشنطن التي تعتبر "حامل القلم" في هذا الملف، وصاحبة اختصاص صياغة مسودة مشاريع القرارات، لم يتغيّر داخل أروقة الأمم المتحدة في نيويورك، وبقيت اللغة الدبلوماسية الفضفاضة تكتفي بإشادة مزدوجة بكل من المقترح المغربي بمنح الصحراء حكماً ذاتياً، والمقترح المضاد الذي تتمسك به جبهة البوليساريو والذي يصر على خطوة الاستفتاء لـ"تقرير المصير".

في المقابل، يعيش المغرب منذ توقيعه اتفاقية التطبيع في إطارها الثلاثي علاقات متوترة مع جاره وشريكه الأول على الصعيدين السياسي والاقتصادي، أي الاتحاد الأوروبي. بالتناوب، تدخل علاقات المغرب في أزمات متوالية مع الدول الأوروبية، وبعد كل من إسبانيا وألمانيا، تعيش العلاقات المغربية الفرنسية حالياً إحدى فترات توترها الكبرى. كما تعيش المملكة حالة من التوتّر الحاد مع إحدى المؤسسات الحيوية للاتحاد الأوروبي، وهي البرلمان الأوروبي، والذي أصدر توصية تتعلّق بحالات اعتقال مشوبة بكثير من التعسف في حق صحافيين مغاربة، لكن الصيغة التي صدرت بها الوثيقة تنم عن أكبر من مجرد انتصار لموقف حقوقي، بل تؤشر إلى نار خفية تستعر أكثر تحت رماد العلاقات المغربية الأوروبية.

في خلفية هذه التوتّر، وعلاوة على وقع الصدمة والتوجس الذي كان للاتفاق الثلاثي المغربي-الأميركي-الإسرائيلي لدى الشركاء التقليديين للمغرب؛ نجد قصة برمجية "بيغاسوس" الإسرائيلية، والتي تتهم بعض الأطراف الأوروبية المغرب باستخدامها ضد مسؤولين أوروبيين كبار، خاصة منهم مسؤولي الدولة الفرنسية. ولولا الإعلان الرسمي عن رفع مستوى التعاون والتنسيق الأمني المغربي-الإسرائيلي إلى مستويات تتجاوز بكثير ما كان يجري في السابق خارج القنوات الرسمية، لما كان رد الفعل الأوروبي بهذا العنف والحدة التي تهدد مصالح حيوية للمغرب والمغاربة، ويكفي أنّ مواطني المملكة باتوا يواجهون صعوبة كبيرة في الحصول على تأشيرة دخول الفضاء الأوروبي (شينغن) لأغراض العمل والدراسة والعلاج.

أضرار مماثلة مسّت المصالح المغربية في واجهات أخرى، حيث باتت سمعة المغرب في الأوساط العربية والإسلامية تواجه تدهوراً كبيراً، خاصة مع توالي أنباء التعاون والتنسيق مع الكيان الصهيوني. ورغم أنّ محطة مونديال "قطر 2022" شكّلت لحظة استثنائية استعاد فيها المغاربة موقعهم في قلوب شعوب المنطقة، إلا أنّ الشق الرسمي لم يحد عن مساره التطبيعي، حيث لم تعد الدبلوماسية المغربية تقدم على اتخاذ أي موقف مندد بالجرائم الإسرائيلية، كما بات دور المملكة في الدفاع عن القدس الشريف ينسحب من المشهد تدريجياً، لدرجة أصبح معها المغرب مجرّد واحد من المشاركين في اجتماع نظمته جامعة الدول العربية حول وضع المدينة المقدسة، بينما يفترض أنّ موقع المغرب كرئيس للجنة القدس داخل منظمة التعاون الإسلامي، يجعله في صدارة المدافعين عن المدينة في وجه الاعتداءات الإسرائيلية.

وفي الوقت الذي أقدمت فيه الدول الأفريقية على طرد وفد إسرائيلي من قاعة اجتماعات القمة الأخيرة لمنظمة الاتحاد الأفريقي؛ فإنّ الخيار التطبيعي للمغرب لن يخلو من انعكاسات على مصالح المملكة في الفضاء الأفريقي، خاصة في ظل دبلوماسية نشيطة ومسلحة بعائدات تصدير النفط والغاز للجارة-الخصم الجزائر، والتي توظف بشكل كبير هذا الموقف الأخلاقي الضعيف للمغرب في إطار صراعها الدونكيشوتي مع المغرب.

إذا أضفنا إلى كل ذلك تصاعد الأصوات المنتقدة للمسار التطبيعي من داخل المغرب، حيث شكّل الاحتجاج أمام مؤسسات تجارية تسوّق بضائع إسرائيلية داخل المغرب جزءاً من احتجاجات شعبية عرفها المغرب أخيراً بسبب موجة الغلاء؛ فإن الفاتورة تصبح كبيرة مقارنة مع ما يمكن أن يحصّله المغرب من مكاسب موعودة من وراء الاختيار التطبيعي القائم على مفهوم "الصفقة" والرعاية الأميركية.

يونس مسكين
يونس مسكين
صحافي وكاتب، مدير نشر ورئيس تحرير سابق لجريدة "أخبار اليوم"، أستاذ زائر في المعهد العالي للإعلام والاتصال بالرباط، ومدرّب معتمد في الصحافة والتواصل. له عدة إصدارات منها ثلاث دلائل مهنية في مجال الصحافة، وبصدد تحضير أطروحة دكتوراه في علم السياسة.