"أوبنهايمر" أو التبرير الأخلاقي للجريمة

"أوبنهايمر" أو التبرير الأخلاقي للجريمة

09 اغسطس 2023
+ الخط -

لم أسمع بالفيلم الذي أقام الدنيا ولم يُقعدها، إلا قبل شهر واحد فقط من عرضه، وبمجرّد أن اطلعت على الموضوع الذي يعالجه الفيلم، قرّرت أن أشاهده دون شك. ومن حينها إلى الآن، وسؤال واحد فقط يدور في ذهني: هل يمكننا الآن أن نُوقف كلّ هذا الهراء الذي يجري من حولنا؟ هل هناك أحد مهما كان، دولة قوية، جهة معينة... تمتلك قرار وقف ما يجري في العالم، خاصة بعدما أصبح من الواضح، أنّ الإنسانية تبني نهايتها بيدها، بدءاً من الكوارث البيئية وصولاً إلى الحروب والحوادث التي تحصد مئات الأرواح بشكل يومي، دون أن ننسى كذلك الأطعمة غير الصحية، وكذلك المحيط الذي أصبح مكاناً لا يُحتمل العيش فيه، باستثناء الجزر الخاصة، تلك التي يرتادها مليارديرات العالم؟ 

وهذا يقودني إلى سؤال واحد، رسخ في ذهني مند مدّة وأنا أقرأ كتاب "روح الحداثة"، لطه عبد الرحمن: هل حققت الحداثة ما كانت تصبو إليه؟

سؤال مثل هذا يبدو من الصعب الإجابة عنه في كلمات ضمن هذه المدوّنة، لكن، وعموماً، لا يمكن أن يختلف اثنان، في جودة الخدمات التي وفرتها الحداثة، انطلاقاً من الرفاه والراحة، والقضاء على الكثير من مظاهر التخلّف وعلى مجموعة من الأمراض والأوبئة... كما ازداد معدل عمر الإنسان وبات أكثر تحكماً بالطبيعة، وأكثر قدرة على تسخيرها لخدمته بالقوة (على حدّ قولهم)، بعدما كانت مسخرة طوعاً، حسب ما يُخبرنا الدين، والميزات كثيرة، تكاد لا تُحصر هنا، هذا من غير أن نذكر أيضاً وسائل كثيرة سرّعت من وتيرة الحياة، لكن كلّ هذا يجعلنا نطرح سؤالاً تقليدياً: ثم ماذا؟ أيّ جدوى لهذه الحياة التي أصبحت بلا طعم اليوم؟

ومن غير أن نبتعد عن أجواء الفيلم الذي صُرِفت على ترويجه ملايين الدولارات، فقد كنت في البداية أعتقد أنّ الفيلم يحكي عن الأزمة النفسية التي يعيشها العالم الفزيائي المشهور، روبرت أوبنهايمر، بعدما أدرك أنه صانع الموت، وأنّ ما صنعه قد يكون بمثابة آخر مسمار يُدّق في نعش الإنسانية على هذه الأرض، قبل أن أعود وأراجع حساباتي، لأستعمل لغة الرموز، وأبدأ في تحليل الحدث من جديد، والفيلم كالنص حسب اعتقادي، كلاهما يخضعان لقراءات الجمهور لإضفاء معنى عليهما، فالفيلم بمجرّد ما ينتهي منه المخرج، لم تعد له سلطة عليه، فهو كأيّ عملية إبداعية، أحياناً قد تتجاوز نوايا ورغبات المبدع، لتنقل عالماً آخر كان ساكناً هناك، لم يكن يخيّل لصاحبه أنّ الجمهور قد يصل إليه يوماً ما.

حضارة تقوم على تدمير شعوب وبيع أسلحة وتلويث البيئة... وفي الأخير مجالس لحقوق الإنسان تستنكر وتندّد؟!

"أوبنهايمر" ليس عالم فيزيائي فقط، إنه يعكس روح حضارة ما، إنها الحضارة المادية المعاصرة، التي تنعدم فيها الروح الإنسانية، رغم أنّ أصحابها لم يكونوا يطمحون إلا إلى ذلك بداية، حيث إنهم كانوا يعتقدون أنهم سيتخلصون من العالم القديم، العالم المريض والوحشي، عالم يحكمه منطق الغاب، وتتحكّم في أصحابه الغرائز، ويحاكون فيه حياة الحيوانات، لنعيد طرح السؤال اليوم: أيّ عالم تراه متوّحشا اليوم؟ هل هو عالمنا الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم، وذلك دون الحلم بالعودة إلى الوراء؟ أم تراه ذلك العالم الذي ننعته ظلماً بأنه كان عالماً وحشياً متخلفاً؟ وفي الحقيقة لم نفعل ذلك إلا بغية إضفاء المشروعية على هذه الحضارة لا غير.

يصعب ذكر كلّ المقارنات، وبعيداً عن السينما التي أنزلت ظلماً بعض الأحكام الجزاف وشوّهت صورة شعوب العالم القديم، حيث أبادت حضارات، أو شعوباً بكاملها، أي أنّ البعض فكر في ابتكار ما قد يؤدي إلى إفناء العالم بأسره، أليس أوّل من فعل ذلك هم دعاة الحضارة الجديدة؟ ولذلك يحاولون تبرير أفعالهم، تحت ستارات متعدّدة؟ وفي الفيلم يظهر البطل وهو يشتغل طوال النهار على مشروع تدمير البشرية، وفي اليل تراوده الهواجس حينما يكون بين أحضان النساء، ويتحوّل إلى حمل وديع يؤنبه ضميره، ويفكر في الكوارث التي ستلحق العالم جراء عمله! أليس هذا هو نفسه منطق العالم الغربي اليوم؟ تدمير شعوب، وبيع أسلحة، وتلويث البيئة... وفي الأخير مجالس لحقوق الإنسان تستنكر وتندّد؟

سفيان
سفيان الغانمي
باحث في الفكر الإسلامي، حاصل على الإجازة في علم النفس، وباحث في سلك العالمية العليا التابع لجامع القرويين بفاس، مدون مهتم بالفكر والأدب. يعرّف عن نفسه بالقول: "حبر الطالب أقدس من دم الشهيد".