الجزائر: الشرطة ترفع أرقام البطالة

الجزائر: الشرطة ترفع أرقام البطالة

19 مايو 2016
(في الجزائر العاصمة، تصوير: فاروق باتيتشي)
+ الخط -

كان إلياس مدني (فنّان كوريغرافي)، في يوم التاسع من شهر أيّار/ مايو الجاري، يقوم بأشغال بناءٍ في إحدى عمارات مدينة وهران، غربي الجزائر، قبل أن يلقى مصرعه إثر سقوط مميت من شرفة شقّة ترتفع عن الأرض ثلاثة عشر طابقاً.

إلياس، فنّان تهاوت أحلامه طابقاً طابقاً، بعدما أوصدت مؤسّسات ثقافية أبواب العمل في وجهه، ما دفعه إلى كسب قوت يومه خلف ستائر المسرح في أعمال البناء والديكور.

آخر مشاركة له كانت العام الماضي في ملحمة افتتاح تظاهرة "قسنطينة عاصمة للثّقافة العربية"، ولكنّه وجد نفسه يُحلّق خارج السّرب، بعد احتجاجه على الرّاتب الذي تقاضاه برفقة عدد من زملائه. كان مبررّه هو أنّ مدّة التحضيرات لـ"ملحمة قسنطينة الكبرى"، تجاوزت بكثير المدّة المتّفق عليها في عقد العمل الذي أمضاه مع المؤسّسة الثّقافية، وحُرم بسبب احتجاجاته المتكررّة من الظّهور في العرض الأخير للملحمة في مسرح "الكازيف" في العاصمة الجزائرية.

يتحدّث عنه صديقه الممثل المسرحي رشيد بلعقيلي: "لقد نصحته بالابتعاد عن هذه المهنة خوفاً من أن تبعده عن خشبة المسرح، وكان يبرر ذلك دائماً بأن تصميم الديكور هو امتداد للفن".

مأساة إلياس، حكاية تتكرّر كل يوم في الشّارع الجزائري، وإن اختلفت الأسماء والمهن، فإن طرق البحث عن "فرصة عمل"، تتقاطع كلّها في سيناريو واحد محبوك بتفاصيل متشابهة، تُحال فيه الأدوار فيه لشباب يطوف بـ"سيرته الذاتية" عبر المؤسّسات ومكاتب التوظيف بلا جدوى. خرّيجو جامعات ينتظرون لسنوات في طوابير طويلة دون عمل، أو يشتغلون بصيغ عقود "هزيلة"، وآخرون ابتلعتهم طاحونة ورشات الأعمال الشّاقة، فذهبت سنوات دراستهم وتكوينهم وخبرتهم في مهبّ الرّيح.


شهادات وفقط
قد لا تُعبّر مناصب الشّغل في الجزائر غالباً عن مستويات أصحابها، فقد تُصادف "قابض تذاكر" في حافلة بشهادة جامعية، وقد تجد صاحب برنامج تلفزيوني لا يحمل في جيبه إلّا "رخصة قيادة"، وهو مع حدث عندما أوكلت إحدى القنوات الجزائرية الخاصّة، تنشيط برنامج ترفيهي باللغة العاميّة، لأحد "السائقين" المشتغلين في مؤسّستها، أمام مرأى جميع الصحافيين العاملين في القناة.

أمّا هاني، شاب جامعي حامل لشهادة مهندس دولة في الزراعة من جامعة محمد خيذر في محافظة بسكرة، جنوب شرق الجزائر، يروي لـ"جيل العربي الجديد"، حادثة كادت تفقده ذراعه اليسرى في آلة لفرم التمور، تسبّب له ذلك في عجز لمدة سنة كاملة قبل أن يتعافى من إصابته ويعود للعمل كسائق شاحنة لنقل البضائع.


حلول سهلة
لم تعد البطالة في الجزائر ظاهرة اجتماعية فحسب، بل تحوّلت إلى قضيّة سياسية أيضاً؛ فقبل ثلاث سنوات، نظمت "اللجنة الوطنية للدفاع عن حقوق البطالين" مسيراتٍ حاشدة توسّعت لتشمل أربع ولايات جنوبية (ورقلة، الأغواط، الجلفة، الوادي). استمرت تلك المسيرات التي عُرفت بـ"احتجاجات الجنوب" لقرابة السّنة، واستدعى الوضع تنقّل الوزير الأول ووزير العمل وعدد من رؤساء الأحزاب، لتبتكر السلطة حلاً "خرافياً"، امتصّت به عدداً كبيراً من البطّالين، وهو فتح 10 آلاف منصب شغل دفعة واحدة في جهاز الشرطة لبطّالي محافظات الجنوب.

ووصف حينها سعد بوعقبة (صاحب عمود يومي ذائع الصيت)، معلقاً على الحادث بمقالٍ تحت عنوان "بولسة الجنوب": "أليس العدد، 10 آلاف شرطي، يكفي حتّى لضمان أمن الجيران في المغرب وموريتانيا والسّنغال ومالي والنيجر..؟! أليست القوّات التي تدخّلت بها فرنسا لإنهاء حالة اللّاأمن في كل منطقة السّاحل لا يتجاوز عددها 5 آلاف جندي؟!".


سياسة وإرهاب
يعلّق عبد القادر خربة، المنشّط الوطني لـ"اللّجنة الوطنية للدّفاع عن حقوق البطّالين"، وأحد منظّمي حراك البطالين في الجنوب الجزائري، في حديث إلى "جيل العربي الجديد"، بأن السبب الذي دفع البطّالين للخروج إلى الشارع، هو العقود "الهشّة" التي خلقتها السّلطات الجزائرية لإخماد احتجاجات البطّالين. ويستشهد المتحدّث بصيغة "عقود الشّبكة الاجتماعية" التي لا تتجاوز منحتها مبلغ 5600 دينار (51 دولاراً) في الشّهر، إضافة إلى عقود "الإدماج" التي لا تتجاوز مبلغ 1800 دينار شهرياً (16.5 دولاراً).

يتحدّث خربة حول تفاصيل اللّقاء الذي جمع لجنة البطالين بوزير العمل السّابق: "عوض أن يتحدّث معنا الوزير حول ملف التشغيل الذي عرضناه عليه، راح يذكّرنا بسنوات الإرهاب في الجزائر والأزمة الأمنيّة التي مرّت بها البلاد، فهددّنا بالانسحاب من الاجتماع بحجّة أن الوزير يقوم بتهديدنا بطريقة غير مباشرة".


بطالة بسبب الشّرطة
من المفارقات التي يطرحها المنشّط الوطني لـ"اللّجنة الوطنية للدّفاع عن حقوق البطّالين"، هي أن ميزانية جهاز الشرطة في الجزائر تُقتطع من حصة "الوظيف العمومي"، وبالتالي فإن الأعداد الكبيرة في صفوف الشرطة تكون على حساب المناصب الموجّهة للتعليم والصحّة والخدمات، ويتسبّب ضخّ المزيد من المناصب في جهاز الشّرطة دائماً في نقص مناصب العمل في مختلف القطاعات في الجزائر، على حدّ قوله.


بطّال كسول
تُهمة "البطالة" في الجزائر، يتقاذفها كلٌ من البطّال وربّ العمل على حدّ سواء؛ فالبطّال يعلّق سبب بطالته على شمّاعة الرّاتب المهين، وتفضيل النّساء على الرّجال، والاعتماد على مبدأ "الصداقات" و"الشللية" في التوظيف، وعدم ملاءمة العمل للطّموح والتخصصّ الجامعي والتكوين، أما ربُّ العمل فيتّهم شباب اليوم بالكسل، وضعف مردودية العمّال، والانتقائية والتكبّر على المهن البسيطة.

قبل عدّة أشهر، في إحدى التّجمّعات الحزبية لوزير السياحة عمار غول في العاصمة، اعترف في خطابه، أنه عرض مبلغ 2000 دينار جزائري (يفوق أجرة أستاذ ثانوي) لليوم الواحد، مقابل الحصول على خدمات في أرضه الفلاحية، ولم يجد من يقوم بالعمل، موضّحاً أن الشّباب الجزائري أصبح يجنح للمهن السّهلة، والوظائف التي تؤدي إلى "الربح السريع".

ربّما لامس وزير السياحة جانباً من الحقيقة؛ إذ يُعبّر كثير من الشباب الجزائري إن سُئل عن "وظيفته المريحة" بقوله: "راقدة وتمونجي"، ومعناها "أكل ونوم"، حتى ولو كان ذلك براتبٍ متدنٍّ، فالأعمال المفضّلة لكثير من الشّباب هي التي لا "يُشمّر فيها على السّاعد"، ولا تتطلّب جهداً كبيراً. لذلك، يُفضّل عدد كبير من "محدودي المستوى الدراسي" العمل كأعوان حراسة، أو الانضمام إلى صفوف الأجهزة الأمنية في الجيش أو الشرطة.


الراتب يحدّد الوظيفة
ما يتقاضاه جندي برتبة "ضابط صف" في الجزائر، مُستواه الدّراسي لا يتجاوز السنة الثالثة من التعليم الثانوي، يُضاهي راتب أستاذ جامعي في العاصمة حاصل على شهادة ماجيستير، ولذلك يفضّل كثير من الشباب عدم مواصلة الدارسة، والتوّجه مباشرة للانخراط في مهنة تدرّ عليهم راتباً يكفيهم شرّ الفقر بعد التخرّج. فقضاء سنوات أخرى في الجامعة في الدّراسات العليا وما بعد التدرّج، تكلّف الشّباب سنوات ثمينة من حياتهم، تجعل منهم بطّالين في سنّ الثلاثين دون خبرة تذكر.

العمل في مجال التخصصّ هو آخر همٍّ يفكّر فيه طالب العمل في الجزائر، ولذلك تجد أن خارطة الوظائف رُسمت وفق خيارات البحث عن "الأجر الأعلى"، أو "عقد العمل الدائم"، أو البحث عن عمل لا يتطلب جهداً كبيراً بمساحة كبيرة من العطل، مثل مجال التعليم، وتعود الكلمة الفصل في الغالب لكل هذه الخيارات لعامل "المحسوبية" أو (المعريفة) كما يُطلق عليها باللهجة المحلية.


من الصّحافة إلى المقاولات
حالة الصحافي خالد، كغيرها من الحالات التي وجدت نفسها أمام خيار البطالة أو التوجّه لمهنة أخرى، فبعد "تشميع" القناة الخاصّة التي كان يشتغل بها، بسبب ما اعتبرته سلطة ضبط السمعي البصري بالتجاوزات، يوضّح في حديث مع "جيل العربي الجديد"، أن الإشكال الحقيقي يكمن في غياب علاقة أو تواصل بين الجانب الأكاديمي العلمي ممثلاً في الجامعة، وبين نظيره الاقتصادي ممثلاً في المؤسسات الاقتصادية سواء منها الخاصّة أو العمومية، مضيفاً أن المسؤولين في الجامعات يدرجون تخصّصات لا تمتّ بصلة لمخرجات سوق العمل، لينتهي الطالب بعد تخرجه إلى "بطال إلى أجل غير مسمّى".

يُرجع المتحدث سبب تخليه عن مهنة الصحافة بأنّ العمل بها يتطلّب الاستقرار في الجزائر العاصمة لتمركز أغلب المؤسسات الإعلامية في أقصى شمال البلاد، مضيفاً أنّ المناخ السياسي، من جانبه، يعمل على تثبيط الصحافيين: "فبعد أزيد من عام في قناة الوطن الجزائرية، تمّ تشميعها وتحويل أغلب الصحافيين إلى البطالة، ما جعلني شخصياً أتحوّل إلى المقاولاتية، فهي توّفر لك شيئاً من الاستقلالية وراتباً أحسن مما يتقاضاه أغلب الصحافيين".

زميله زكي عليلات، ومقدم برنامج "ملفّات"، يروي بدوره معاناته من البطالة لمدّة فاقت السبعة أشهر، بأنّ المرحلة التي يمرّ بها صعبة على الصّعيدين المادي والمعنوي، وخاصة أنها أفقدته تواجده وجمهوره ورسالته على حدّ تعبيره، ويدافع المتحدّث عن الذين يفضّلون الالتحاق بمهن مؤقتة إلى غاية الالتحاق بمهنة مناسبة بقوله: "كل له الحقّ في الطموح، والحقّ أيضاً في تحصيل قوت يومه. الصحافة مثل الهواء، والبقاء دون عمل أو الاستقرار في مهنة أخرى هو استسلام للأمر الواقع".

يتفق كثير من الموظّفين في الجزائر على أن الرّواتب التي يتقاضونها أدخلتهم في ما يسمى بـ"العبودية المقنّنة"، ولذلك يتخلّى بعضهم عن مناصبهم مبكراً، للقيام بمشاريعهم الخاصّة والاستقلال التّام عن المؤسسات التي يرتبطون معها بعقود تحدّ من قدراتهم الإبداعية وتؤجّل الرفع من مستواهم المعيشي.