الصراعات تضرب ثروات النفط وتستنزف احتياطي النقد في ليبيا

الصراعات تضرب ثروات النفط وتستنزف احتياطي النقد في ليبيا

12 نوفمبر 2014
الصراعات المسلّحة تشلّ الاقتصاد الليبي (فرانس برس/getty)
+ الخط -
تتعدد القراءات للواقع السياسي والأمني غير المستقر في ليبيا، ولكن النتيجة واحدة، وهي أن أداء الاقتصاد سيظل رهنًا لتحقيق الاستقرار السياسي والأمني، وبما يضمن تدفقات النفط الليبي للخارج، حيث يعتبر النفط شريان الحياة في ليبيا، وقد برهنت نتائج السنوات الماضية على ذلك، فمنظمة "الأسكوا" في مسحها الأخير عن النتائج الاقتصادية والاجتماعية للمنطقة العربية لعام 2013/2014، توضح أن الناتج المحلي الإجمالي بليبيا عام 2011 تراجع بنسبة 61.3 %، بينما في عام 2012 حيث عاشت ليبيا حالة من الاستقرار المؤقت، فقد قفز الناتج المحلي الإجمالي بمعدلات وصلت إلى 98.2 %.

ولكن "الاسكوا" ترصد عودة الأداء السلبي للناتج المحلي الليبي خلال عام 2013 حيث كانت معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي سالبًا بمقدار (- 3 %)، وتتوقع المنظمة أن يزداد هذا الأداء السلبي للناتج المحلي بليبيا ليصل إلى (- 5 %) في عام 2014. وهذا التذبذب الواضح في أداء الناتج المحلي الإجمالي يعكس ما رصده صندوق النقد الدولي من دور النفط في الاقتصاد الليبي، حيث يشكل النفط 60 % من تكوين الناتج المحلي الإجمالي، ونحو 95 % من الإيرادات العامة، وكذلك يشكل النفط والغاز ما قيمته 98 % من الصادرات الليبية. 

وتظهر أيضًا نتائج مسح "الاسكوا" أن الأداء السلبي للناتج المحلي الليبي، كان أحد أسباب تراجع الناتج المحلي الإجمالي للمنطقة ككل، فالناتج المحلي الإجمالي للمنطقة تراجع بشكل عام إلى 3 % في عام 2013، بينما لو استبعدت ليبيا من المسح الخاص بأداء دول المنطقة لوصل الناتج المحلي الإجمالي إلى 3.2 %، أي أن الأداء السلبي للاقتصاد الليبي تسبب في تراجع نتائج الناتج الإجمالي للمنطقة بنحو سلب 0.2 %.

ومما يزيد من مشكلة ليبيا وغياب الاستقرار السياسي والأمني، ذلك التدخل من قبل دول الجوار، وبعض الدول الأخرى بالمنطقة، مما سيعقد معادلة الاستقرار بليبيا، فدور دول الجوار وباقي دول المنطقة، يجب أن يكون في إطار عودة الحوار بين القوى السياسية المتنازعة في ليبيا، وليس في إطار تقوية طرف على حساب طرف، بل لقد تعدى دور دول بعض دول المنطقة إلى إعتداء مباشر على بعض القوى السياسية المسلحة في ليبيا، وذلك حسب تصريح الدكتور عبدالخالق عبدالله أستاذ العلوم السياسية بدول الإمارات، ومستشار أمير

أبو ظبي، حيث صرح لأحد الفضائيات الخليجية، بأن طائرات عسكرية لبلاده نفذت هجمات عسكرية على بعض المواقع في ليبيا لحماية مصر من الإرهاب، وليس لمناصرة فئة على فئة. وتصريح هذا المسئول الإماراتي يزيح اللبس فيما يتعلق بالطائرات المجهولة التي نفذت اعتداءات في الداخل الليبي خلال الأشهر الماضية.

التوقعات المستقبلية السلبية

السطور السابقة تدل على أن الأداء الاقتصادي الليبي لا يتوقع له أن يحقق نتائج إيجابية، ولا حتى يحفاظ على معدلات التراجع الحالية، بل ستشهد مؤشرات أداء الاقتصاد الليبي تراجعًا ملحوظًا، سواء لما ترتب على تصاعد النزاعات المسلحة في الخارج، أو بسبب انخفاض أسعار النفط في السوق العالمية من جهة، ومن جهة أخرى توقعات تراجع معدلات الإنتاج والصادرات النفطية بليبيا في ظل الصراعات المسلحة، وفيما يلي نتناول مظار التوقعات المستقبيلية السلبية للاقتصاد الليبي.

من أهم عوامل استقرار أي اقتصاد أن تستكمل وتستقر مؤسساته العامة، ولكن بعد حكم المحكمة الدستورية الليبية بحل البرلمان الليبي، فإننا أمام حالة من الفراغ في المؤسسات التي ستؤدي بلا شك إلى نتائج سلبية، فعلى الصعيد الاقتصادي من يقر التشريعات الاقتصادية اللازمة لممارسة النشاط الاقتصادي، ومن يعتمد الموازنة العامة للدولة، ومن يراجعها بعد التنفيذ، في ظل غياب السلطة التشريعية التي تعد هذه الأمور اختصاصًا أصيلًا لها. إن تنفيذ أي برامح تستهدف تحقيق الاصلاح الاقتصادي في ليبيا لابد من تمر وتناقش في البرلمان، ولكن البرلمان فقد هذه السلطة بعد حله بحكم قضائي من أعلى محكمة في ليبيا. وبغض النظر عن موقف البرلمان الليبي والحكومة هناك من رفض حكم المحكمة الدستورية بحل البرلمان، إلا أننا أمام واقع يعكس انقسامًا في مؤسسات الدولة، ويجعل كل ما يصدر من قوانين وتشريعات أو اتفاقيات خارجية محل شك، وقد تؤدي إلى مشكلات اقتصادية وتجارية كبيرة لشركاء ليبيا الخارجيين.

في عام 2013 بنت الحكومة الليبية سيناريو الموازنة العامة على أسعار سعر 90 دولار للبرميل، وبفرض تحقيق إنتاج يصل إلى 1.5 مليون برميل يوميًا، ولكن على الرغم من أن سعر النفط لم يهبط إلى المعدل المقدر خلال 2013، فإن حجم الإنتاج لم يصل إلى المعدلات المطلوب تحقيقها، فقد تناقصت هذه المعدلات بشكل كبير، بسبب سيطرة بعض المليشيات العسكرية هناك على آبار النفط والموانئ، وتعطيل حركة إنتاج وتصدير النفط هناك حتى تدني إنتاج ليبيا اليوم من النفط لنحو 240 ألف برميل فقط. ولذلك وجدنا مردود هذا الأداء واضحًا في معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الذي حقق (- 3) بنهاية العام.

ولكن السيناريو الأسوء حاليًا، والذي إذا ستمر ستكون له تداعيات أكثر سلبية على أداء الاقتصاد الليبي، هو

هذا الانخفاض الحادث في أسعار النفط في السوق العالمية، والتي وصلت لحد 84 دولار للبرميل، ويصاحبه ذلك تراجع في إنتاج النفط الليبي -بعد أن عاودت المليشيات المسلحة مرة أخرى تعطيل آبار الإنتاج وكذلك شل حركة موانئ تصدير النفط بليبيا- سيزيد من عجز الموازنة، ويخالف توقعات الحكومة للحدود الدنيا لأسعار النفط التي تبني عليها تقديرات الموازنة.

وفي ظل هذه الأجواء غير المستقرة أمنيًا وسياسيًا، وكذلك في ظل تراجع أسعار النفط وتعطل الإنتاج والتصدير للنفط الليبي، فمن الطبيعي أن ترتفع معدلات التضخم، بسبب عدم توافر السلع، كما حدث في عام 2011 حيث وصلت معدلات التضخم إلى 15.5 %. وتعد مصر على وجه التحديد من أسرع المنافذ الحدودية لوصول السلع للسوق الليبي، ولكن عادت مرة أخرى ظاهرة اعتراض الشحنات المصرية المتجه لليبيا، مما سيؤدي إلى عدم انتظامها، وارتفاع تكاليفها، وكل هذا بدوره يزيد من معدلات التضخم، وما لم تؤمن حركة وصول السلع من خارج ليبيا إلى الداخل من أي جهة، سترتفع معدلات التضخم لنفس معدلات عام 2011، وقد تتجاوزها بكثير. 

إن الحديث عن البطالة، ونزوح المزيد من الليبيين هو السيناريو المرجح، وإذا كانت مصر وتونس وغيرها من بعض دول المنطقة قد استوعبت أعداد كبيرة خلال الفترة الماضية – هؤلاء المهاجرين الليبيين في مصر وتونس يعيشون على نفقاتهم الخاصة، ولا يقيمون في معسكرات للنازحين، ولا يتقاضون معونات من الحكومات المصرية أو التونسية-، فإن استمرار النزاع المسلح من شأنه أن يزيد من أعداد العاطلين، وإذا كانت تقديرات وزارة العمل الليبية تذهب إلى تقدير البطالة في عام 2013 بـ 15 %، وأن غالبيتهم من الجامعيين، وبما يمثل نسبة 45 % من أعداد العاطلين، فإن المستقبل في ظل النزاعات المسلحة، سوف يؤدي إلى تقويض دور القطاع الخاص، ويتوقع أن تتضاعف أعداد العاطلين خلال الفترة القادمة. وبلا شك فإن للنزاعات المسلحة تداعياتها السلبية على السكان، فالمفوضية العامة للاجئين أشارت في تقريرها في أكتوبر الماضي إلى أن هناك 287 ألف نازح تركوا مناطقهم إلى مناطق أخرى داخل ليبيا بسبب القتال الدائر هناك.

بعد الثورة الليبية كانت هناك آمال عريضة بتبني خطة لاصلاح الاقتصادي، وكانت أهم مقوماته تحديث وبناء البنية التحتية للبلاد، واصلاح التعليم، وبناء اقتصاد متنوع، وبناء شبكة للضمان الاجتماعي تتسم بالكفاءة، وترشيد العمل الحكومي ليخضع لقواعد الحوكمة، ولكن كل هذه الخطوات بلا شك ستتوقف بسبب النزاعات المسلحة، وستشهد البنية التحتية المزيد من التدهور، مما سيؤدي بالتأكيد إلى زيادة تكلفة الإعمار.

تشير تقديرات قاعدة بيانات البنك الدولي إلى أن احتياطي النقد الأجنبي بليبيا وصلت إلى 119 مليار دولار في عام 2013، متراجع بنحو 5 مليارات دولار عن عام 2012. وإذا ما استمر النزاع المسلح، وبخاصة في ظل انخفاض أسعار النفط في السوق العالمي، والاحتمالات الكبيرة بتراجع إنتاج وصادرات النفط بليبيا، فإن هذا الاحتياطي معرض للخطر، حيث سيستنزف لسد عجز الموازنة، والإنفاق على التسليح، والالتزمات العامة الأخرى، وإذا كان الاحتياطي قد تراجع بنحو 5 مليارات دولار في عام 2013، وفي ظل الحفاظ على أسعار عالية، فإن الوضع بنهاية عام 2014 بلا شك سيشهد المزيد من التراجع في احتياطي النقد الأجنبي لليبيا.

لا حديث عن مستقبل إيجابي في ليبيا في ظل الأوضاع التي تعيشها الآن، وأن جنوح بعض الفصائل السياسية للعمل المسلح، وتدخل بعض دول الجوار أو بعض دول المنطقة في الشأن الليبي، سيعقد الأمور، وقد لا يجدي النفط فيما بعد في إنقاذ الاقتصاد الليبي، حيث سيكون قد فقد دوره من خلال سيطرة الفصائل على مواقع الإنتاج وموانئ التصدير، التي أصبحت هدفًا لا يخطأه الكثير من الفصائل المتنازعة هناك. 

المساهمون