12 ساعة احتجازاً.. التصوير "عمل إرهابي"

12 ساعة احتجازاً.. التصوير "عمل إرهابي"

02 ابريل 2017
+ الخط -

قبل أسابيع قليلة، توجّهت مع صديق بكاميرا رقمية إلى إحدى المدارس، لتصويرها من الخارج، في سياق إعداد فيلم وثائقي مستقل، لا تكاد تتوافر له شروط ظهوره وإنتاجه، إذ يعاني المشتغلون فيه من تحدّيات وتعقيدات متفاوتة، تبدأ من شحّ موارد الإنتاج ولا تنتهي عند صعوبة الحصول على تراخيص التصوير في الشارع، فثمّة أزمة تواجه جيل السينمائيين المستقلّين ومخرجي الأفلام الروائية القصيرة والطويلة، هو عدم اعتراف جهات الدولة الثقافية ودعمهم فنيًا وماديًا، حيث يعاني غالبيتهم من ندرة وفقر أدوات صناعة الأفلام، وصدّ صالات العرض السينمائية عن عرض أفلامهم، فضلًا، عن توفير غطاء شرعي لعملهم، من دون أن تتركه منبّهًا لشكوك رجال الشرطة والبلاغات العشوائية ضدّهم، والقبض عليهم من الشوارع أثناء التصوير ومصادرة أدواتهم.

لم يكن خارج توقّعاتنا استدعاء الشرطة لنا، فقد كان جزءًا من حساباتنا، خاصّة في ظلّ الاحتقان السياسي الذي تعيشه القاهرة، والنظرة المشكّكة في كل من يمارس العمل الصحافي والإعلامي ويصوّب الكاميرا تجاه أي شيء مهما تضاءل حجمه أو بدا بلا أهمية؛ فسوف يلاحقك فضول الناس وربّما اعتداءات آخرين، أو يتطوّع ثالث بالاتصال بالشرطة. كل تلك السيناريوهات المقترحة كانت من حظنا ودفعنا تكاليفها كلّها، فأحد المواطنين الذي هرول داخل المدرسة ينادي على مديرها والعاملين بها، اتصل لتوّه بالشرطة وأبلغهم بوجود شابين يحاولان "القيام بأعمال إرهابية".

وعلى الفور كانت دراجة نارية يستقلها اثنان أمناء شرطة، بينما حاوطنا عددٌ ليس بالقليل تحاشياً لهروبنا، كان عدد من المكالمات المجانية قد قدّمت بلاغات تستعجل الشرطة، لكن بلاغ المواطن الذي زعم أننا نقوم بـ"عمل إرهابي"، كان كفيلًا بأن يصبح الأمر خطيرًا جدًا ويعرّضنا لقضية أمن دولة.

ذهبنا إلى قسم الشرطة بعد أن فحص أمناء الشرطة هويتنا، وأبلغوا رئيسهم بصحة البلاغ وبتوافر الشخصين المبلّغ عنهما وأحدهما يحمل هوية "صحافي"، لكنه طمأننا بإخلاء سبيلنا بمجرّد العرض على السيد رئيس المباحث، وهو ما أدركت بعد ذلك أنه حيلة ربّما، حتى لا نفلت منه أو نرفض الذهاب معه طوعاً.

داخل قسم الشرطة، بدا رئيس المباحث منزعجًا ويهدّد بإرسالنا إلى الأمن الوطني "أمن الدولة سابقًا"، حاولت إبداء حسن نيتي بأن الفيلم ليس له مضمون سياسي، وحاولت عرض المادة المصوّرة عليه ليشاهدها، لكنه بدا لي لا ينصت لشيء، ومضى في ثورته هائجًا وحده، وقد حاولت تهدئته بأنني لم أقتحم المدرسة أو أقوم بتصويرها من الداخل، وكنت بعيدًا عن بوابتها الرئيسية بعدّة أمتار، والبلاغ جاء فيه تحريض كاذب ضدّنا. فأين هو "العمل الإرهابي؟".

كان بعض الظبّاط من ذوي الرتب الصغيرة متفهمين لعملنا ومازحنا بعضهم، وكشف لي أحدهم أن المدرسة التي صادف بأن قمنا بتصويرها وقع فيها قبل أيّام حادث اغتصاب لطفلة من موظف بالمدرسة، يعاني من مرض نفسي، تسبّب في هتك غشاء بكارتها، وقد تم القبض عليه وهذا سبّب جزءًا كبيرًا من الشكوك والثورة ضدّنا.

بدأت الأمور تسير شيئًا فشيئًا لصالحنا، وحاولوا عمل محضر إداري، تمهيدًا لإخلاء سبيلنا بعد أن اكتشفوا أننا لا نتحرى تصوير شيء يتعلّق بما تعرّضت له الفتاة، لكن لسوء الحظ أن طبيعة البلاغ وصفة العمل الإرهابي الذي اتهمنا به، أسفرتا عن استقبال الأجهزة الأمنية جميعها إشارات عن هذا الحادث، من قسم الشرطة والأمن الوطني ومديرية الأمن وحتى مكتب الوزير، بحسب ما أبلغنا به ظباط الشرطة، وبالتالي سوف يترتّب على ذلك عمل محضر رسمي وعرضه على النيابة، والكشف على أسمائنا لئلا نكون مطلوبين أو مقيّدين في قضايا سياسية أو جنائية.

مضت ثلاث ساعات من الواحدة بعد الظهر وحتى الثالثة عصراً داخل القسم في محاولات تراوح بين الشدّة واللين، حتى فوجئنا برئيس المباحث يمزق المحضر الإداري الذي كان سيسفر عن إخلاء سبيلنا، وأن التعليمات النهائية كانت من مساعد مدير الأمن، بتحرّي الإجراءات الرسمية، ويترتب على ذلك وضعنا في غرفة الانتظار الملحقة بغرفة التوقيف التي يقبع بها المسجونون، انتظاراً لميعاد العرض على النيابة بعد ثلاث ساعات أخرى، كتب خلالها المحضر، وتم تقييد "الحرز"؛ أدوات التصوير، بحيث تعرض المادة الفيلمية والصور الفوتوغرافية عليهم.

بدّدنا الوقت في غرفة الانتظار بحديث الفضوليين من السجناء بعنبري الرجال والسيّدات، والذين لم تنقطع أصواتهم ومشاجراتهم وتطفّلهم على الزائرين الجدد، فضلًا عن مطالبهم التي لا تنقطع مع أمناء الشرطة للحصول على أدوية أو شاي وقهوة وسجائر. فالغرف لا تفتح لهم إلا في مواعيد الزيارات، ومن خلال زجاجات بلاستيكية مملوءة بالشاي أو القهوة، يجري إفراغ محتواها في زجاجة بيد أحد المساجين من شق بالباب، وداخل الغرفة تجرى المفاوضات مع المسؤول عن الحجز ويكون من أقدم الجنائيين، والذي يتولّى تنظيم شؤون المساجين ويعود له الطاعة والأمر في كل شيء، ويفرض عملة رسمية داخلها عبارة عن علب سجائر.

أمام وكيلي النيابة لم تكن لنا أي صفة مهنية تسمح لنا بممارسة العمل الإعلامي والتصوير السينمائي، فكلانا غير مقيّد بنقابة، وبالتالي نشاطنا غير مشروع، ظل يفحص الصور والفيديوهات دون تعليق ولم يحذف منها شيئًا، وبابتسامة ساخرة نصحنا بعدم تكرار هذا الفعل مرّة ثانية.

لم يكن ليبدو عليهما أثناء الاستماع لنا أدنى درجة اقتناع بمشروعية هذا العمل، وتمحورت تساؤلاته أو بالأحرى شكوكه، حول طبيعة الجهة التي سنخاطبها، إذ ما شرعنا في التصوير أو عند الانتهاء منه، ربما طمأنه قليلًا إنتاج مكتبة الإسكندرية قبل عام لفيلم روائي قصير، وهي جهة تابعة للدولة لا تثير شكوكه حول ما إذا كنا نعمل لحساب جهات خارجية أو حقوقية، وهو السؤال ذاته الذي لاحقنا داخل القسم بعد أن أخلت النيابة سبيلنا، فوقفنا أمام رئيس المباحث يكرّر افتراضه عدّة مرّات: "الآن انتهيتم من تصوير الفيلم، أين سترسلونه ومن سيذيعه؟". وبنبرة واثقة محذّرة سألنا: "هل تكرّرون هذا العمل ثانية؟".

بمجرّد وصول أوراق التحريّات عنّا، والتي أسفرت عن كوننا غير مطلوبين في أي قضايا، كما أنه ليست لدينا ملفّات في الأمن الوطني تكشف عن نشاط سياسي، أطلق سراحنا وبحوزتنا أدوات التصوير، فمكثنا ساعتين إضافيتين في القسم لإنهاء إجراءات الإفراج لتكتمل اثنتا عشرة ساعة قضيناها تحت وطأة مخاوف حول مصير احتجازنا، وما قد تؤول إليه الأمور بسبب بلاغ كاذب زعم أننا نقوم بعمل "إرهابي".

المساهمون