ولنا في قطيع الثيران حِكَم

ولنا في قطيع الثيران حِكَم

12 مايو 2020
+ الخط -
سأحدثكم عن الذين لا صوت مسموعا لهم، من لا جمعيات حقوقية ولا منظمات دولية تهتم لأمرهم، عن أولئك الذين أضنتهم مشقة العيش ولفظتهم عجلة الحياة بعد أن أفنوا ما أوتوا من جهد وقوة في إعمار الأرض وتربية النشء، عن أولئك الذين يطالعونك بوجوه خط عليها الزمان سيلا من التجاعيد تخالها أخاديد جفت بعد أن هجرها مجرى الحياة وولى عنها منذ عهد بعيد.

نعم حديثي عن المسنين أو كبار السن أو العجزة أو العاجزين، سمهم ما شئت فمهما حاولنا المداراة والتمويه، ليسوا لدى البعض منا سوى عبء يثقل كفة نفقات الدولة، يخرب ماليتها ويؤدي إلى اختلال موازنتها بالنظر لحجم الخدمات الصحية والاجتماعية التي يحتاجونها، هم في نظر البعض الآخر ليسوا سوى أرقام لنزلاء في مركز للرعاية، نزلاء ركنوا في غرفة بين أربعة جدران لا مؤنس ولا صديق فيها سوى صداقة أزلية بين برودة سكنت المكان وروماتيزم احتل ضلوعهم.

وحيث إن الأزمات تكشف المعدن الحقيقي للمجتمعات وتختبر مدى صدق إيمانها بالقيم والمبادئ التي تدافع عنها وما إذا كانت تتبناها حقيقة أو تَقِيَّة فتظهر عكس ما تكتمه، إلى أن تتكشف حقيقتها زمن الشدائد، فإن أزمة كورونا لم تحذ عن هذا المبدأ، فقد امتحنت بالأساس إنسانية مجتمعات القرن الواحد والعشرين قبل حتى أن تمتحن مدى صلابة أنظمتها الاقتصادية والصحية.


أزمة كورونا نزعت عن العالم رداء الفضيلة الزائف الذي كان يتدثر به ويخفي تحته أنانيته، كشفت أن الإنسان مهما ارتقى في سلم الحضارة لا يزال بعد محكوما بغريزة البقاء، بقائه وحده.

فمنذ أن تم الإعلان عن أن هذا الفيروس يستهدف كبار السن بالدرجة الأولى ولا يعرض حياة الأطفال والشباب للخطر إلا بدرجات أقل، منذ ذلك الحين علت أصوات تعارض إجراءات الحجر الصحي التي فرضتها الدول، وما استتبعها من منع للتجمعات وإغلاق للمعامل وللشركات، واستنكرت عليها أن تتم التضحية بمستقبل اقتصاد الأجيال القادمة فقط خوفا على أرواح أشخاص حياتهم وموتهم سواء، لكونهم لا يقدمون أي فائدة أو نفع مادي للمجتمع.

البعض الآخر منهم انبرى للدفاع عن سياسة مناعة القطيع، مقدما إياها كبديل عن الحجر الصحي، وداعيا للاستفادة من تجربة دول كالسويد وفيتنام، باعتبارها نماذج تمكنت، حسب المؤشرات، من التحرر من خناق الجائحة والسيطرة عليها وإن إلى حين. غير أن هذه النظرية إن كانت قد أعطت نتائج إيجابية في هذه الدول، فذلك لأن مقومات النجاح متوفرة بها.

فمناعة القطيع حسب أهل الاختصاص، تفترض بأن فتح المجال أمام المواطنين لمزاولة أنشطتهم الاعتيادية، وإصابتهم بالفيروس ثم علاجهم منه سيمكنهم من اكتساب مناعة جماعية، تقيهم من الإصابة به مرة أخرى، وهذا ما يتطلب بداهة نظاما صحيا قادرا على استيعاب الأعداد الكبيرة للمصابين الذين سيتوافدون على المستشفيات، إلى جانب العزل التام لكبار السن وللأشخاص ذوي الأمراض المزمنة، وهو ما ليس متوفرا ولا ممكنا حتى في الدول الأكثر تقدما، ولنا في حالتي بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية خير مثال على ذلك. وبالتالي فإن أي تعميم لسياسة مناعة القطيع على سائر بقاع المعمور سيؤدي لا محالة إلى إبادة جماعية للملايين من المسنين، إبادة ربما قد تكون أكثر بشاعة من تلك التي نفذها هتلر ضد المعاقين ذهنيا تحت ذريعة تنقية العرق الآري، فهل سنشهد في زمن كورونا بوادر نازية جديدة، نازية القرن الواحد والعشرين؟

وعلى ذكر القطيع يحضرني مشهد يتردد كثيرا في وثائقيات عالم البراري يصور أسودا وهي تحاول مهاجمة مجموعة من الثيران البرية، فتجتمع هاته الأخيرة تلقائيا في شكل دائري يحتمي في وسطها صغار الثيران وضعفاؤها بينما تتحلق القوية منها حول المجموعة مشكِّلة حائط صد أمام محاولات اختراق الأسود المتكررة، ومدافعة بشكل مستميت وشرس عن وحدة القطيع وتراصه. تآزر لا نجده حتى لدى بعض أبناء جلدتنا بني البشر، فإن كان ولا بد لنا من تبني مناعة قطيع، فلنستخلص من مناعة قطيع الثيران العبر فهي ولا شك أحق بالاقتداء!

دلالات

7DDCEA4F-32F1-46A8-BB87-B72005D06EEE
صفية العلوي المحمدي

باحثة في سلك الدكتوراة في القانون، ومحامية متمرنة من المغرب.

مدونات أخرى