.. ولكن، أين هم العرب؟ من هم العرب؟

.. ولكن، أين هم العرب؟ من هم العرب؟

26 سبتمبر 2019
+ الخط -
أين العرب؟ ليس سؤال الاستجارة، شحذ النخوة، أو الإنقاذ من ضيق، من تشرّد أو لجوء. وهو، على كل حال، سؤالٌ اختفى عن الشاشة، مع اختفاء العرب. إنما سؤال الفضول: أين العرب، حقاً؟ كانوا في تاريخ قريب جداً يخوضون صراعاً مع إسرائيل، تشوبه مائة شائبة، ولكنهم كانوا الطرف الحاضر الشاهد في هذا الصراع. الآن، الصراع لم يَعُد عربياً - إسرائيلياً، إنما إيرانياً -إسرائيلياً، تلعب فيه الولايات المتحدة دور الحَكَم المنحاز، انحيازاً لم يَعُد، بدوره، كما كان.
أين هم إذن؟ كـ"دول"، وهذا مصطلح غير مطابق تماماً، أو بالأحرى، كمصير دول، لم يَعُد لهم غير دور "الورقة". وبالمفرّق، وليس بالجملة، كعرب. بل كعراقيين سوريين سعوديين يمنيين، وكفلسطينيين خصوصاً، أصحاب القضية الأصلية في الصراع العربي - الإسرائيلي. دور "الورقة" هو بمثابة ديناميكيتهم الوحيدة. وتُسَمّى بما يمليه هذا الدور: ففي وقتٍ تخوض فيه إيران المبادرة تلو الأخرى، الهجوم تلو الآخر؛ إيران كإيران، أقصد، وتردّ عليها إسرائيل، كإسرائيل... كيف يسمّى أصحاب الدور "الورقي"، الذين يتلقون هاتين المبادرة والهجوم؟ إنهم من جهة "سنِّيدة" إيران وسط العرب، سيفها المسْموم، أصحاب المليشيات المذهبية المنتشرة في بقع النفوذ الإيراني المتوغّل داخلياً، "محلياً، "قُطرياً"... وقوة هذه المليشيات بلغت مرتبة الجيوش المزروعة هنا وهناك، مهمتها تدمير الكيان السياسي، وإلحاقه حرباً أو سلماً بإيران. اسمها "عربية"، هذه المليشيات، وبعد ذلك، لمزيد من التوضيح: لبنانية عراقية يمنية.. إلخ. أي إذا أردتَ أخذها بمجموعها: إنها مليشيات عربية، تأتمر، بصراحةٍ متناهيةٍ بأمر المرشد الأعلى الإيراني، ويده اليمنى "الحرس الثوري". خلفها، أو أمامها، أنظمة بعثية، كانت العروبة واحدة من إيماناتها، وخُرقت الآن، بملء إرادة القيمين عليها، وبـ"وعي" من إيران وروسيا وأميركا. أنظمة كانت عروبية، وأصبحت الآن بلا قرار، بلا اسم، غير ما تتطلّبه الجغرافيا. أي أنها لم تَعُد "عربية" إلا بالدرجة العاشرة، أو الحادية عشرة، من التصنيف. غيرها من الأنظمة لا يقلّ نقصان عروبتها، أو حتى غيابها، عن تعريفها. إنها بلسان مباشر من الغرب، أو بلسان غير مباشر من قبلها، دول ما زالت قائمة شكلياً ربما على رجليها، ولكن اسمها بالنسبة للجميع "الدول السنّية"، لا الدول "العربية"؛ وهذه الأخيرة، أي الصفة "العربية"، لا تفيد إلا عند انعقاد مؤتمرات القمة، أو مؤتمرات هيئات رسمية ما زالت عاملة ومموَّلة وذات "قرارات". ولكن، أيضاً، قرارت أبْطَلت عروبتها من زمان.. لا تأخذها على محمل الجدّ إلا في السجع، خدمة للبلاغة وموسيقاها.
أضِف إلى هذا المشهد، الرسمي، إذا جاز التعبير، ذاك الذي يخصّ "الشعوب"، المفترض أنها
 عربية: أين هي تلك الشعوب؟ دعْ عنك شعبي الجزائر والسودان، أو شعب تونس.. الباقون، الهائمون على وجوههم، الهاربون من ديارهم، المطرودون منها.. اللبنانيون، المستنزفون، حتى أعماق روحهم؟ السوريون، أبطال فجيعة هذا العصر؟ العراقيون المبعثرون بين إيران وأميركا و"داعش"؟ اليمنيون الممزَّقون بين حوثيين و"قوات تحالف دولية"؟ الليبيون المنثورون غربا وشرقا، قبائل، مدن؟ المصريين الذين تمكّن منهم، حتى هذه اللحظة، عسكري بلا ذكاء ولا مؤهلات؟
لماذا تستطيع إيران أن تزرع مليشيات تأتمر بقيادتها الأكثر إجراماً، تستطيع أن تهزّ كيانات عربية كانت بالكاد تبني نفسها؟ لماذا تستطيع إيران أن تقلّد إسرائيل بعد سبعين عاماً من نشأتها، فتتوطّن في قلبنا، وتوزّع نقاط استيطانها في وسطنا، بالقدر الذي فعلته إسرائيل، وربما أكثر؟ وبألوانٍ تتجاوز المخيّلة الإسرائيلية؟ أي لا يقتصر اختراقها للعالم العربي على فلسطين، وحسب، والتي أمسكت على كل حال بـ"ورقتها"، أي بمدخلها إليه؟ إنما فرشت لنفسها ثكناتٍ على امتداد المشرق... والباقي معروف.
لماذا لم تزرع إيران مليشياتها في تركيا، مثلاً، حيث أكبر أقلية مذهبية، يمكن أن تغويها، كما فعلت مع الأقليات العربية؟ لماذا لم تزرعها في روسيا، أو في واحدةٍ من الجمهوريات الإسلامية التي تدور في الفلك الروسي؟ ولماذا نجحت في الأقطار المسمّاة "عربية"، سابقاً؟ هل هذا ضعف عربي صميمي، سابق ولاحق؟ أي أن إسرائيل تمكّنت من الفلسطينيين، ومعهم من العرب، وأن هذا التمكّن أضعف العرب إلى حدّ أنه مكّن الإيرانيين، بدورهم، من اللعب بمصيرهم، أيضاً؟
الآن، من هم العرب؟ أو، من هم العرب الآن؟ نحن من نكون كعرب؟ بعدما فقدنا الحياة التي تزخمها، على الأقل، المبادرات أو القرار، أو المشاريع، ولو الفاشلة، أو نصف الناجحة؟ بعدما نزلنا إلى مصاف "المجهول"؟
من ماضينا، يمكن أن نلتقط تداخل تواريخنا، وحدتها. حضارتنا، وأعلامنا، ومفاخرنا، شكيمتنا. ولكن، لا يمكن للمرء أن يبقى عربياً على أساس هذا الماضي، الخاضع للمراجعة، لو أتيح له
 ذلك؟ لأن الوقت يستنزف هذا الماضي، إذا فرغ من طاقته، يحوَّل إلى شعائر. ولأن ليس المطلوب تعريف الهوية على أساس ماضيها حصراً، إذ تجد دائماً من يصادر هذا الماضي، عند فراغ الحيوية، ويحوّله هو الآخر إلى "ورقة"، كما تفعل الآن كل الأصوليات الدينية، الشيعية منها والسنية، فالتعريف بالماضي الآن إما أنه يضعف الهوية، أو يرميها في حقول التجييش العصبي الضيق، المفتِّت، القاتل للعروبة، القاتل لأي جامع.
وحدة المستقبل إذن؟ ربما. هذا ما لمحت إليه الانتفاضات العربية التي اندلعت منذ عشر سنوات. أقصد كل الانتفاضات العربية، بما فيها اليمنية والبحرينية. تجلّت العروبة في هذه لحظة، من دون خطط أحزاب، ولا ألاعيب حكومات. بنوعٍ من الوحدة الأقرب إلى الروحية، وبعصَب واحد. ولكنها لم تفلح، هذه الانتفاضات. وعادت العروبة إلى جحرها. أي أنه لم يَعُد في وسعنا التكلّم عنها، عن وحدة عربية، إلا بصفتها "وحدة ثقافية"، لا غير.
وماذا في هذه الثقافة؟ اللغة فقط. اللغة العربية توحِّدنا. وهذا كنز ثمين، غنيمة من التاريخ. لكن هنا أيضاً، لا نعرف قيمة هذه الغنيمة أبداً، لأننا أبْطلنا العربية في كتاباتنا وفي محيانا، فضعفت مناعتها وأصيبت بوباء قاتل. تلك اللغة الدافئة، الصاخبة، تلك اللغة - الذاكرة، تركناها تُصاب بوباء التعالي عليها، تجاهلها، نكرانها. نتكلّم، يتكلّم العرب بلغةٍ عربيةِ ركيكة، تتخلّلها عبارات إنكليزية؛ وكأن النطق بها، أي الإنكليزية، جاء لينقذهم من دونيتهم. وكأنهم يتفاخرون بأنهم لا يعرفون العربية. يتميّزون عن غيرهم بالإنكليزية. ولا ينطبق هذا التهاجن على العلَنيين من القوم وحسب، بل يمتد إلى كل المعاملات والعلاقات واللقاءات التي تجمع بين من يكونون بالأساس عرباً؛ وفي ما بينهم، وليس بينهم ومن لا ينطق بلغتهم. وهذا وباءٌ يشبه الأمراض العاتية التي قد تقضي على ضحيتها، على ما تبقّى من العروبة.. وينتهي بذلك أمر العروبة، فنضيف إلى عداواتنا المحلية، عداوة مع "جيراننا" العرب، فيكتمل بذلك مصير "الورقة"، كما تكتمل المصائر البشرية عند الموت: جائزة ثمينة رخيصة بيد من تنافسَ على امتلاكها أو تقاسمها، إيران وإسرائيل.