وثنية تغتال الإنسان

16 سبتمبر 2015
+ الخط -
يحب النظام الأسدي أن يوصف بالعلماني. ويكرّر دوماً أنه علماني، تحاربه الأصولية، لأنه يدافع عن العقل والحداثة. 

يُصادر النظام العلمانية، في جملة ما يصادره من صفات، يستولي بواسطتها على مفاهيم ومبادئ، يجب الحؤول بين الآخرين والإفادة منها لبناء مواقف فكرية/ سياسية مستقلة عنه، أو مناهضة له، تمكّنهم من تكوين تنظيمات سياسية، تعبر عن حاجات ومواقف مغايرة للحاجات والمواقف التي يتبناها، ويعتبر كل ما عداها مرفوضاً وطنياً وقومياً وإنسانياً، لمجرد أنه يؤسس حقلاً سياسياً تعددياً، يبطل واحدية وجوده في المجال العام وسيطرته عليه، التي تستمد "شرعيتها" من القوة والعنف والأجهزة القمعية.
هل النظام الأسدي علماني؟ أعتقد أن الجواب يجب أن يحيط بجوانب ثلاثة: موقفه من الإنسان باعتباره قطب الوجود القادر على عقل واقعه، وتغيير شروط وجوده، من دون الاستعانة بأي فاعل آخر. موقفه من الحرية محدداً وحيداً لذات الإنسان، يصير بامتلاكه الفاعل الأول في وجوده الذي تسمو ممارساته على من وما عداه. سياساته ومحدداتها، ودرجة التزامها بالقيم النابعة من العلمانية، ثورة ثقافية قوّضت فكر الكنيسة السياسي، ونظرتها إلى الموجودات.
لن أطيل، فلا وجود للإنسان ولا وظيفة له في علمانية الاستبداد من النمط الأسدي الذي يتنكّر تنكراً مطلقاً لما يصنع هويته، ذاتاً تتعين بالحرية وحدها، وليس بأية صفة أو جهة ما ورائية أو دنيوية أخرى. لا محل للإنسان في علمانية النظام بصفته ذاتاً حرة، وبالتالي مستقلة، وتستحق الحماية من البطش والظلم والعيش الكريم في ظل العدالة والمساواة. ولا مكان له مواطن دولة وكائناً سياسياً، له حقوق مقدسة، كالحق في الحياة، ينهض عليها نظام عام، ينهار في حال تجاهلها أو قمعها، يتيح بلوغها له رعاية شأن عام مستقل عن السلطة. تكمن علمانية النظام في فصل الإنسان عن الحرية، كما عن المجال العام الذي تنفرد باحتلاله، وتملأه رمزياً بشخص رئيسٍ، هو إله سياسي واجب العبادة، يحتل في تراتبيتها مكان الله في تراتبية الدين، فهو خالق كل وجود وموجود، وتعتبر رمزيته، وبالتالي، طاعته، جوهر دين وثني تكفيري بأشد معاني الكلمة، ولأنه وثني ويشخصن إلهه، ويضعه مكان الله رب العالمين، فإنه إلحادي في موقفه من الدين السماوي، يعاديه ويسفه رموزه، ومتطرف في كل ما يتصل بإيمانه بإلهه الخاص، ومكملاته من مزارات مذهبية، ومقرات أمنية وقطعات عسكرية ومؤسسات تنظيمية. هذه "الوثنية" المعادية لأي جانب فكري/ فلسفي صنع العلمانية، والمقطوعة الصلة بالانقلاب الثوري الذي أنجزته، ووضع الإنسان في المركز من الوجود، بعد أن طرد منه مركزه القديم: الكنيسة الكاثوليكية، كانت لها نتائج ومنطويات، عبرت عن نفسها سياسياً في فصل المؤسسات الدينية عن الدولة، وفي الوقت نفسه، عبر تخطي حقل السياسة المباشر وتأسيس الفاعلية الإنسانية الشاملة، بتحولاتها التي طاولت مختلف جوانب فكر الإنسان الملموس ونظره، ممارسته وعمله، هويته ومجتمعه، دينه ودنياه.
بإخراج الإنسان من السياسة، مواطناً وذاتاً حرة، وقلب "علمانيته" إلى أداة لتعزيز السلطة،
وبربط الشأن العام بالحاكم مجسداً للدين والدنيا، تخلَّق دين سلطوي، له ربه وكهنته ومعابده، وكُفِّر بالمعني الديني الصرف كل من رفض عبادته، ودُفن حياً أو صلب وقطعت أطرافه، على غرار ما كان يحدث في حقبة محاكم التفتيش في بعض بلدان أوروبا، بل قُبر حياً من رفض القول بربوبية كاهنه الأعظم: رئيسه، كما حدث لمن رفض الإقرار بربوبية بشار الأسد، فدفنه المؤمنون به حياً، وصوروا دفنه بهواتفهم النقالة. لا تفصل العلمانية الاستبدادية الكنيسة عن الدولة. إنها تقاتل الدين وتدمر الدنيا، بقيادة وثن أعظم، تجب على عبيده عبادته تحت طائلة القتل، هو رئيس نظامها الذي كان هيغل يسميه "العبد الأعلى".
ذات يوم في الثمانينيات، كان اثنان من أصدقائنا في طريقهم عند الفجر من مساكن برزة إلى حي المزة، في الطرف الآخر من دمشق. استوقفتهم دورية مخابرات عند جامع الروضة قرب القصر الجمهوري، لكنهم لم يروها فتبعتهم حتى أوقفت سيارتهما في ساحة الأمويين، حيث أمرهم الضابط قائد الدورية بالترجل منها، وهو يشهر بندقيته عليهم، ويكيل لهم طوفاناً من الشتائم. عندما عرف أسماءهما وهويتهما، حذرهما من تكرار غلطتهما، لأنها قد تكلفهما حياتهما. سأله أحدهما عن السبب، فرد الضابط مستنكراً: ألا تعلم أن "المقدس" يذهب، في مثل هذا الوقت، من القصر إلى بيته؟
ليس نظام الاستبداد الأسدي علمانياً، بأيٍّ من معاني العلمانية. وليست علمانيته غير دين سلطة وعبادة أوثان سياسية "مقدسة". والعلمانية ليست هذا أو ذاك، بل هي ثورة الإنسان المتعيّن بالحرية، وقد صار مركز الكون والوجود، ولأنه غدا ذاتاً حرة، فإن علمانيته لا تمنعه من عبادة الله والإيمان بأنبيائه ورسله وممارسة جميع أنواع العبادات. في المقابل، تعتبرك العلمانية الأسدية كافراً إن أنت آمنت بالله، وتعاقبك إن مارست عبادات دينك، وتقصفك بالقنابل والصواريخ من البر والبحر والجو، إن تمسكت بحريتك ومعتقداتك، ورفضت الانصياع لوثنيتها.  
E4AA2ECF-ADA6-4461-AF81-5FD68ED274E9
ميشيل كيلو

كاتب سوري، مواليد 1940، ترأس مركز حريات للدفاع عن حرية الرأي والتعبير في سورية، تعرض للاعتقال مرات، ترجم كتباً في الفكر السياسي، عضو بارز في الائتلاف الوطني السوري المعارض.