هل ثمّة "جريمة في رام الله" فعلًا؟

هل ثمّة "جريمة في رام الله" فعلًا؟

07 فبراير 2017
(عبّاد يحيى)
+ الخط -

أمس، بعد أن حصلت على "جريمة في رام الله" للروائي الفلسطيني عبّاد يحيى. وصلتني، وأنا أغادر المكتبة، رسالة، نصّها: "النائب العام يصدر أمرًا بضبط رواية مُخلّة بالآداب والأخلاق العامة"؛ الأمر الذي شجّعني على المباشرة في قراءتها، وفعلت.

يتطرّق يحيى في روايته إلى حياة الجيل الفلسطيني الشّاب ما بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية من خلال تتبّع الحيوات والتفاصيل الصغيرة لشخصيات شابّة. حياة الفلاحين الذين ينتقلون إلى المدينة وعوالمها وتركيبها الاجتماعي المختلف.

من خلال بضع شخصيّات، فكك الباحث في علم الاجتماع - ويلاحظ القارئ من خلال السرد التمكُّن من رصد تفاصيل قد تبدو عاديّة بنظر غير الخبير- هذا الجيل الشاب؛ فها هما رؤوف ونور القادمان من القرية يتخلَّيان عنها وكل ما يربطهما فيها من قواعد وتقاليد، حتّى العائلة. وهاجس رؤوف المُسمّى دنيا، ووسام وربا اللّذان يظهران مع وقوع الجريمة، ويتَتبّع مصير كلٍّ منهم.

تبدأ قصة رؤوف -وهو ابن أحد المناضلين في التنظيمات الفلسطينية- مع النّظرة الأولى لدنيا، وعدم اكتراثه لدراسته الجامعية رغم كونه على مشارف التخرّج، وتفكيره في الانتقال إلى شقّة أخرى للسكن وحده مما يؤدي به إلى العمل في مركز لاستطلاع الرأي لتوفير مصدر إضافي للدخل، ومن ثم كساقٍ في بار "لوتس". والولادة الثانية عند انفصاله عن العائلة مع بقاء طيف دُنيا يشغل باله، ونهايةً بالعودة إلى بداية الحلقة والتفكير بضرورة التخرُّج للحصول على عمل جيد، ونسيان دُنيا كليًا لولا وقوع الجريمة. جاء السرد في قصة رؤوف هنا على لسانه بصيغة الماضي.

أما نور -الذي ترعرع في عائلة ينتمي بعض أفرادها لحماس- فيكتشف المتعة الجنسيّة في سن الثالثة عشرة كأي فتى في سنّه. تظل شخصيّة نور تتكون لدى القارئ من خلال سرده لذكرياته مع "صديقه" رؤوف -الذي يعاني من غيابه- وطريقته لجَعْله "زلمة" خارج المنزل، وتأنيثه داخله. ومن ثم الخوض في التركيبة الاجتماعية لحركة حماس من خلال تفاصيل أسرته. الانفصال المادي عن العائلة، العمل في البار، التفكير في رؤوف طوال الوقت والبكاء عليه، الخوض في علاقات جنسية عابرة غير ممتعة وبلا عاطفة.

هنا، يأخذ السرد صيغة الحاضر لما تتطلبه الأحداث؛ فنور هو بطل الرواية، وهنا ينجح يحيى في اقتحام عالم المثلية الجنسية والتركيبة النفسية وهوية الشخص الذي يخطو في هذا الاتجاه.

أما وسام؛ فمعه تشتد حَبكة الرواية، وتبدأ آلات هذه المعزوفة بالتناغم. وسام يعيش قصة حب مع ربا الغزيّة التي جاءت للدراسة في رام الله قبل ست سنوات من وقوع الجريمة، هاجرت عائلتها إلى السويد بعد حرب 2012 على غزة، رفضت الرجوع لغزّة أو الهجرة معهم؛ الأمر الذي أدّى إلى تخلّيها عنهم وتخلّيهم بالمقابل وبالتالي ولم تُثر الجريمة هلعهم. خمس قُبلات في البار، دمعة يتيمة، ثم طعنة في الصدر، هكذا فارقتهُ. نجد هنا صفة يتشارك فيها كل شخصيات الرواية؛ وهي الابتعاد عن العائلة بصورة أو بأخرى، وهذا ما أصبحنا عليه كمجتمع فلسطيني.

تصبح الجريمة حدثًا مركزيًا في حياة كلٍ منهم، فيتغير كل شيء بعدها: فهذا يُظلم ويتعرض للإهانات ما يؤدي به إلى الهرب من كل صناديق الذكريات والهجرة. والآخر يجد ضالته بعد أن فقد اكتراثه بها، "فما فائدة الأجوبة الواضحة حين تموت الأسئلة؟"، وليُكفّر عن ذنوبه-حسب ما يحدث في هذه القصص لدى الحاقدين على المجتمع ومن يعيش حياة مُضطربة من مثلية جنسيّة وغيرها- ينتمي إلى جماعات مُسلّحة؛ ليجد فيها الخلاص. وهناك مع من صارت حديث الجميع، والأخير حتّى لم يوفق في طريقة الانتحار التي اختارها.

في الصفحات الأخيرة، لما يلي الجريمة، يبدع يحيى على لسان الطبيب النفسي في تشخيص الحالة التي يعيشها من يفقد قريبًا له، وكيف يتعامل مع الذكريات من خلال "نظرية الصناديق".

 جاء قرار المنع من النائب العام بحجّةِ أنّها "مخلّة بالحياء والأخلاق والآداب العامّة"، لكن حقيقة الأمر مغايرة؛ ما منع الرواية أنّها تكشف عن جانب مسكوت عنه في المجتمع الفلسطيني وخفاياه التي يراها كلٌ منّا ويصعبُ الحديث عنها، سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزّة، فهذه الشخصيات والأحداث والمثلية الجنسية موجودة، وجريمة القتل للفتاة هذه لسبب مجهول -أو بالأحرى يتم إخفاؤه- تتكرر بشكل دوري.

لو كان المنع واستدعاء الكاتب بذريعة "خدش الحياء العام" لتم استدعاء كل الناشرين وأصحاب المكتبات في الضفة الغربية، وتم مصادرة روايات هنري ميلر ودوستويفسكي وباولو كويلو وهاروكي موراكامي وماركيز وعبد الرحمن منيف وميلان كونديرا، لوليتا، سرمدة، وغيرها الكثير الكثير، لتمَّ منع القراءة في الأصل!

كما أن الكلمات "البذيئة" كما يصفها ويستنكرها البعض في صفحة 200، ليست من خيال الراوي، بل ما نسمعه على لسان من ينجو من المعتقلات وغرف التحقيق، وكل النّاجين من السجون، السجون المختلفة في أي مكان في العالم.

ما منع الرواية بعض العبارات التي وردت على لسان أبطال الرواية مثل حديث نور لعناصر الشرطة- لكن في خياله: "أفكّر أن أخبره أن قادته هم الجواسيس، وهم من يُدنسون أرض الشهداء التي يتحدّث عنها، وهو يساعدهم". وأخرى: "ها أنا أتّهمه لأنه مجروح، ولأنه ابن مخيّم".

أيًا كانت الأسباب وكما تنبأ عبّاد في روايته: "صارت الجريمة حديث الجميع، ولكل تحليله"، ليت النائب العام والقارئ والمجتمع والنُقّاد والشعراء والمثقفين الذي أيَّدوا منع الرواية يُدركون أمرًا واحدًا -واحدًا فقط- وهو الفرق بين العمل الأدبي سواء كان رواية أو غيرها، والمقالة؛ فالأولى بكل ما ورد فيها من آراء وعبارات تُعبّر عن أبطالها، أبطالها وحسب، أما الثانية فتعبّر عن كاتبها. مع التنبيه إلى أنه في كلتا الحالتين لا يحق لأيٍ كان قمع حرية الكتابة أو التعبير.

المُضحك المبكي في الأمر أن شعار الطبعة كان "الأدب أقوى" نكايةً بالاحتلال وممارسته في إتلاف وتقييد دخول الكتب إلى فلسطين، فيأتي المنع من المؤسسة الرسمية بدلًا من دعمها!

المساهمون