هل العولمة قابلة للارتداد؟

هل العولمة قابلة للارتداد؟

17 فبراير 2015

تتوحد أنماط التعليم والبحث العلمي ضمن بوتقة العولمة (Getty)

+ الخط -

على الرغم من توسع العولمة، بمختلف جوانبها، وخصوصاً بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، أواخر ثمانينيات القرن العشرين، وجعل العالم قرية صغيرة، بحيث بدت العولمة قوة جبارة، لا سبيل لوقفها، أو إعادتها إلى الوراء، وإعادة القيود أمام حركة تجارة السلع والخدمات وحركة الأموال والاستثمارات، ونشاط الشركات وانتقال الأعمال. على الرغم من ذلك، يعود السؤال، اليوم، عن مدى قابلية هذه العولمة للاستمرار، وهي تواجه تحديات جديدة، ودعوات لإلغائها. ولكن، تأتي دعوات الإلغاء، هذه المرة؛ من البلدات المتقدمة التي أطلقتها، وليس من بلدان العالم الثالث التي توجست شراً من العولمة، وناصبتها العداء. وهذا يطرح السؤال، اليوم، عن قابلية العولمة للارتداد.

أصرّت مؤسسات العولمة، في مرحلة صعودها، على تحرير تجارة السلع والخدمات عبر العالم وإزالة الحدود الجمركية، وتحرير حركة رؤوس الأموال، وإزالة الحدود أمام تأسيس فروع لشركاتها في بلدان العالم الثالث، وأن تعامل معاملة الشركات الوطنية، وأن تفتح أسواق العقود التجارية، وعقود المقاولات أمام الشركات العالمية. طبعاً، من دون أن تدعو إلى تحرير أسواق قوة العمل، لأسباب معروفة، فأدى هذا إلى نقل الصناعات الخفيفة والخدمات التي تتطلب كثافة يد عاملة، نقلها من العالم المتقدم إلى العالم الثالث (ملبوسات، أحذية، ألعاب إلخ)، ما أتاح للعالم المتقدم أن يعزز التبادل غير المتكافئ بينه وبين العالم الثالث، فيبيع للعالم الثالث منتجات فيها معرفة وكثافة رأس مال وقيم مضافة مرتفعة، تتيح دفع أجور مرتفعة ليد عاملة أوروبية مؤهلة ومدربة، إضافة إلى تحقيق أرباح كبيرة للشركات، في مقابل حصول العالم المتقدم على سلع استهلاكية رخيصة مستوردة من العالم الثالث، مكّنت اقتصاد الدول المتقدمة من مراكمة سيولة كبيرة، عززت قدرات مؤسساتهم المالية على تمويل الاستثمارات وتمويل البحث والتطوير، وإقراض العالم الثالث الذي وقع في فخ الديون، ليستخدم هذا الفخ أداة إكراه لإعادة
هيكلة البلدان المستدينة، وفتح أسواقها، وتنظيم مؤسساتها على النحو الذي يناسب العولمة، وسيطرة الشركات الكبرى.

لكن، ما لبثت هذه اللعبة التي بدت مربحة للبلدان المتقدمة أن تحولت إلى كابوس عليها، في بعض جوانبها. فهي، ومنذ البداية، حولت فرص العمل من البلدان المتقدمة إلى البلدان النامية منخفضة الأجور، فارتفعت معدلات البطالة في البلدان المتقدمة، وأصبحت مشكلة بنيوية في كثير من بلدانها، وأصحبت معدلاتها تزيد على 10%، مسببة تكاليف باهظة، لتمويل هؤلاء العاطلين عن العمل، ثم ما لبثت بعض بلدان العالم الثالث أن استغلت الفرصة خير استغلال، وخصوصاً الصين، في إنتاج السلع، والهند في تقديم الخدمات، وهما يشكلان معاً أكثر من ثلث البشرية، وبدأتا تتقدمان في سلم السلع والخدمات، ذات القيم المضافة الأعلى التي حرصت البلدان المتقدمة على الاحتفاظ بها، في البداية، وأصبحت الصين تنتج المحركات والمعدات والآلات وأجهزة الاتصال وتقنية المعلومات، وما شابهها، وليس فقط الملبوسات والألعاب، وما شابهها، كما أصبحت الهند تحصد أرقاماً كبيرة من أعمال الخدمات التي كانت تقدمها شركات الدول المتقدمة، فخلق هذا الوضع مزيداً من الضغوط على شركات البلدان المتقدمة، مجبرة أعداداً أكبر منها على الانتقال الى العالم الثالث، وإغلاق مصانعها في العالم المتقدم، ما أحدث المزيد من البطالة في العالم المتقدم، وصعّد الصدام بين مصالح رأس المال ومصالح قوة العمل.

الدول المتقدمة التي اعتقدت أنها ستستطيع الاحتفاظ بالصناعات ذات القيم المضافة المرتفعة، والتي تحتاج كثافة علمية، وكثافة رأسمال ويد عاملة مؤهلة (مكائن ومعدات، سيارات وشاحنات، سفن وقطارات وطائرات، بتروكيمياء، أسلحة، برمجيات، وغيرها) إضافة إلى احتفاظها بحلقات التوزيع والتسويق للسلع الاستهلاكية الخفيفة التي تنتجها بلدان العالم الثالث، تبين لها أن هذه المعادلة لم تتحقق من جهة، ولم تتح لهم توفير فرص عمل كافية لعمالتها الوطنية.

العولمة وسياستها المفتوحة جعلت شركات تنتمي إلى بلدان مثل الصين والهند وكوريا والبرازيل وغيرها، تنافس شركات الدول الكبرى، وتستولي على الأسواق والمشاريع. وهذا يحدث لأكثر من سبب، ليس فقط لرخص اليد العاملة، وانخفاض التكاليف، بل لأن شركات العالم الثالث المنافسة تتهرب من الضرائب المنخفضة في بلدانها، في مقابل أنظمة ضرائب صارمة ومرتفعة، في البلدان المتقدمة، إضافة إلى سوق عمل مقيدة بحقوق العمال، مقابل انعدام هذه الحقوق في البلدان النامية، وقدرة غير محدودة على تقديم الرشى، مقابل قيود صارمة، تفرضها الدول المتقدمة، ما يؤدي إلى خسارة شركات البلدان المتقدمة في المنافسة مع شركات البلدان المتقدمة. وقد شكل هذا المناخ بيئة مناسبة لبلدان الاقتصادات الجديدة وشركاتها. مثلاً في النصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين، انطلقت شركة هواوي الصينية صغيرة مغمورة، وعام 1997 كان تعد نحو تسعة آلاف مشتغل. بعد عقد من الزمن، أصبحت أكبر شركة اتصالات في العالم، تنتج تكنولوجيا الاتصالات، وتقدم خدماتها، وتتقدم لشراء شركات اتصالات أميركية وأوروبية.

تؤدي هذه الأوضاع إلى نمو حركات في العالم المتقدم، تدعو الشركات إلى أن تعيد حساباتها في سياسة تحرير التجارة في السلع والخدمات، وتحرير حركة رأس المال وتحرير الاستثمار والنشاط الاقتصادي، وتدعو إلى إلغاء الجبايات الضريبية التي تسهل التهرب الضريبي، وإلغاء السرية المصرفية التي تقدم حماية للأموال الفاسدة، وتطالب بإيجاد بيئة تجارية عالمية منافسة، وهذه مسألة معقدة، كما تنمو حركات نقابية معادية للعولمة، وتدعو إلى إعادة فرص العمل إلى البلدان المتقدمة، وتنمو حركات سياسية يمينية، تدعو إلى سياسات وقف هجرة الأجانب إلى بلدانهم، وتلقى هذه الأحزاب شعبية متصاعدة، وخصوصاً على خلفية الأعمال الإرهابية التي تتم في أوروبا، أو حتى خارج أوروبا.

هل سيصل الأمر قريباً إلى أن نرى البلدان المتقدمة تتراجع عن تحرير التجارة وفتح الأسواق وتحرير حركة رؤوس الأموال والاستثمارات؟

المشكلة أن العولمة تصبح قوة ذاتية الدفع إلى الأمام، كما أن جوانب عديدة فيها غير قابلة للارتداد، فالعالم أصبح منفتحاً ومترابطاً، تربطه وسائل المواصلات ووسائل الاتصال من شبكة هواتف وموبايل وإنترنت وشبكات تواصل اجتماعي، ولا نعرف ما سيأتي من جديد. كما تتشابه، بل وتتوحد، أنماط التعليم والبحث العلمي وتنظيم الشركات والمؤسسات الاقتصادية والتجارية والعلمية والثقافية والحكومية، وغيرها، وحتى أدوات العمل وتنظيم البيوت وأنماط اللباس، وحتى الطعام والشراب تتعولم، وتصبح نمطية، وتسيطر شركات كبرى عبر العالم. لكن الأهم أن دعوات ارتداد العولمة ستواجه، هذه المرة، بمصالح ومقاومة قوى بازغة جديدة من العالم الثالث، بعد أن شكلت العولمة فرصة ثمينة لنموها، مثل الصين والهند والبرازيل وغيرها، وستعمل لمنع ارتدادها من جهة، بل وستشكل بديلاً عولمياً عنها.

غير أن بلدان العالم الثالث الأخرى، مثل بلداننا العربية التي لا تدرك ما يجري حولها، أو هي تغط في سباتها، تسترجع أحلام ماض مضى وانقضى، أو داخلة في صراعاتها الوطنية وحروبها الأهلية، تاركة هذه الفرصة تفوتها، فهي ستجد نفسها تنتقل من يد إلى يد، من النفوذ السابق الفرنسي الإنكليزي الأميركي الألماني الياباني وغيره، إلى نفوذ صيني أو هندي أو كوري أو برازيلي وتركي، ولكن لا عربي بينها.