هل الحضارة الإنسانية قشرة تغطي همجية البشر؟

29 مارس 2020
+ الخط -
ضَبط وباء كورونا العالم وهو في أزمة أخلاقية خانقة، وقد أسلس قياده لحفنة من السياسيين الفاسدين والمفسدين في أكثر من مكان. ففي الولايات المتحدة، أكبر ديمقراطيات العالم، يتربع في البيت الأبيض رئيس فاسد، لا يهتمّ إلا بزيادة رصيده في المصارف، ولا يتورّع عن ابتزاز حكومات أجنبية لتثبيت حكمه في البلاد، كأيّ زعيم لبلد شرق أوسطي أو أميركي - لاتيني. خرج لتوّه منتصراً من محاكمة في مجلس الشيوخ، في محاولة لعزله، فراح يسنّ أسلحته وأسنانه لتحقيق مكاسب جديدة. 
يدعم الرئيس دونالد ترامب سياسيين أميركيين يمينيين وعنصريين، لا يأبهون لسلوكه المخجل، ولا لمحاولاته المكشوفة في تسييس القضاء الأميركي، ورشوة كبار الاحتكارات ومهادنة الدكتاتوريين في كلّ أصقاع الأرض، من الرئيس الروسي بوتين، إلى الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون، مروراً برئيس الفيليبين الذي يرمي خصومه من الطائرات. وحين فاجأه فيروس كورونا الفتاك، أنكر ترامب ذلك في البداية، وسمّاه "خدعة أخرى من الديمقراطيين"، وحاول باستمرار التقليل من خطر الفيروس على البلاد. وزعم أن الفيروس يخضع "للسيطرة"، وأن عدد الحالات الأميركية سينحو نحو الانخفاض، بل ولم يخجل من القول إن الفيروس قد "يختفي" من خلال "معجزة" أو شيء من هذا القبيل، بحلول شهر إبريل/ نيسان مع قدوم الطقس الحار. واتهم ترامب وسائل الإعلام والديمقراطيين بأنهم كانوا يبالغون في الوضع، وأن "هذه خدعتهم الجديدة" بعد "خدعة" التواطؤ مع الروس ومسألة أوكرانيا، ما يجعل من غير الواضح ما إذا كان يطلق على الفيروس نفسه خدعة.
وفي المملكة المتحدّة، أرسل البريطانيون إلى "10 داونينغ ستريت" في لندن زعيماً شعبوياً آخر، هو بوريس جونسون الذي يريد عزل بلاده على الطريقة الترامبية، بخروجه من الاتحاد 
الأوروبي. وحين هاجم فيروس كورونا العالم المثالي الذي كان هذا الرجل يحاول بناءه، كان دفاعه مخجلاً، حين دعا إلى فكرة تعريض البريطانيين للفيروس ضمن فكرة "مناعة القطيع" بدلاً من تقديم طمأنات لهم، وبشّر العائلات بأنها ستفقد أحباءها قبل أجلهم، ما أثار الذعر بين الجميع.
وفي بكين وموسكو، عدّل الرئيسان الصيني شي جين بينغ والروسي فلاديمير بوتين دستورَي بلديهما، بحيث يتمكنان من البقاء في الحكم إلى ما لا نهاية. ونحن لا نعرف شيئاً عن حال وباء كورونا في الصين وروسيا، بسبب تشديد الرقابة وإخفاء البيانات. وفي سورية، يستمرّ الرئيس بشار الأسد بقصف المدنيين من شعبه في شمال غرب البلاد، مركّزاً أكثر على المستشفيات والطواقم الطبية، دافعاً ألوفاً جديدة من السوريين إلى النزوح للمرة الثالثة أو الرابعة. وبأسلوبه المفضّل في الإنكار، استمرّ نظامه في إنكار وجود أي حالة مصابة بفيروس كورونا في سورية، على الرغم من أنها محاطة بمناطق موبوءة، وعلى الرغم من أن حدودها الجوية مفتوحة أمام إيران التي تفشّى فيها الوباء بشكل مريع. وحين سئل وزير الصحة في حكومة الأسد عن كيف يطمئن السوريين، أجاب بأن الجيش السوري قضى على جراثيم كثيرة، في إشارة منه إلى السوريين الذين قتلهم هذا الجيش. وحين اضطر أخيراً إلى الاعتراف بوجود عدّة حالات إصابة، كان لا بدّ لهذه الحالات أن تكون عابرةً سورية وليست مقيمة فيها.
وفي بلدان أخرى، أقل أهمية ربما، أوصلت الانتخابات حكومات شعبوية يمينية متطرّفة كما في بولونيا وهنغاريا، ما سيعقّد الحياة السياسية في أوروبا، ويصعّب على الليبراليين والديمقراطيين مهمتهم في تصوير بديل سياسي لليمين المتطرف. في الهند، أكبر الديمقراطيات غير الغربية، تستمرّ الحكومة في تشديد رقابتها على المواطنين، وتزيد من اضطهاد الأقلية المسلمة، واعتمدت السلطات عملية "ترهيب ممنهجة" بحق الصحافيين الذين ينقلون جانباً من الفظائع والانتهاكات التي تستهدف المسلمين في البلاد، على خلفية قانون الجنسية المجحف بحقهم. وحظرت وزارة الإعلام والبث المباشر قناتين إخباريتين في ولاية كيرلا 48 ساعة، بذريعة ظهور إعلاميين ومتحدثين فيهما أبدوا آراءهم بخصوص قوانين الجنسية، وتغطيتهم القمع والاضطهاد والتهجير القسري للمسلمين الذي أعقب أحداث دلهي أخيراً.
وتعرّضت إيطاليا لـ"عملية سرقة من جارتها تشيكيا"، بحسب وسائل إعلام إيطالية، وأعلنت 
"استيلاء سلطات براغ على آلاف من الكمّامات الطبية كانت مرسلة من الصين إلى إيطاليا"، فيما أكدت تشيكيا أنها "صادرت الأقنعة في إطار عملية ضد مهربين". وفي تونس، أعلن وزير التجارة حصول عملية سرقة في عرض البحر تعرّضت لها باخرة شحن محملة بمادة الكحول الطبي كانت متجهة إلى تونس من الصين، وحُوِّلَت وجهتها إلى إيطاليا. وأوضحت الوزارة أن الحادثة أقرب إلى "القرصنة التجارية" منها إلى السطو، بعد أن اختارت الشركة المنتجة للكحول في الصين، بمحض إرادتها، تحويل وجهة الباخرة إلى إيطاليا، بعد تلقيها عرضاً مالياً أكبر للحمولة، في ظل ارتفاع الطلب العالمي على هذه المادة.
ومع ذلك، لا يقتصر المأزق الأخلاقي على الحكومات. ففي الولايات المتحدّة، لم تكن أطول الطوابير التي تنتظر على أبواب المتاجر لشراء الغذاء، بل كانت طوابير شراء الأسلحة. إذ نشط لوبي السلاح في تخويف المواطنين من أعمال نهب وسرقة، مشجّعاً إياهم على تخزين السلاح والذخيرة.
وبدأت المشاعر العنصرية المعادية للآسيويين تظهر على وسائل التواصل الاجتماعي، بعد فترة وجيزة من تأكيد تفشي الفيروس التاجي الجديد. وقال رجل يعيش في ولاية واشنطن، وزوجته أميركية آسيوية، إن سيدة توزع عيّنات طعام في متجر حاولت إبعاد ابنه البالغ ثماني سنوات، لأنه قد يكون "صينياً". ويُظهر مقطع فيديو نُشر على الإنترنت رجلاً يصرخ: "تحرّك!" على راكب آسيوي، قبل أن يرشّه بالمعقمات في مترو أنفاق نيويورك. وتعرّضت سيدة آسيوية في نيويورك للكمة على وجهها، لأنها لم تكن ترتدي قناع وجه. وحين أعلنت أول حالة كورونا في سورية، صرخت موالية للأسد على صفحتها على "فيسبوك"، تشتم من سمح لها بالدخول وتطلب القضاء على كل المصابين، كي لا تنتشر العدوى.
أظهرت الجائحة الجديدة هشاشة العالم من كل النواحي، هشاشة الاقتصادات العظمى التي انهارت
 خلال أسابيع. ففي أسبوع واحد، فقد ثلاثة ملايين ونصف شخص وظائفهم في الولايات المتحدة، وسارعت الحكومة إلى ضخ ترليوني (بالتاء) دولار لإنقاذه. ولكنها أظهرت أيضاً عدم استعداد المؤسسات الصحية لحدوث جائحة وبائية، حيث يحتاج العالم عشرات أضعاف الوسائل التي يمتلكها بالفعل الآن لمواجهة فيروس كوفيد - 19، من أجهزة تنفس وكمّامات ومعقمات. والأهم أن الجائحة كشفت البنية الأخلاقية الهشّة للعالم المتحضّر، وأثبتت أن الحضارة البشرية لا تزال قشرة رقيقة تغطي التوحش والهمجية البشرية التي تلبث كالنار الملتهبة تحت الرماد.
ليس هذا كلّ الحقيقة، بل ثمّة وجه آخر للمعادلة. ففي أكثر من مكان، ظهرت مبادرات أخلاقية راقية تثبت العكس. في عدّة ولايات في أميركا بدأت سيدات أميركيات بصنع كمّامات من أقمشة وموادّ أولية، وتبرّعن بها للمستشفيات. وفي شوارع مدن كاليفورنيا، علّق شباب أميركيون بروشورات تقول إنهم مستعدون لتوصيل البضائع مجاناً إلى بيوت السكان المتقدمين بالعمر الذين لا يُستحسن خروجهم من منازلهم. وفي إيطاليا وإسبانيا، احتفل المواطنون على شرفات بيوتهم، فغنوا وهزجوا، في بادرة تظهر عدم استسلامهم لليأس. وفي إسطنبول، وضع أفراد مجهولون رزماً مليئة بالطعام الجاف في الشوارع، ليأخذها أشخاص مجهولون. لا يعرف المحسنون من أحسنوا إليهم، ولا يعرف المحتاجون من قدّم لهم الطعام. لكن هذا ليس غريباً على المدينة التي يطعم أبناؤها القطط السائبة والكلاب الشاردة في شوارع المدينة.
8B0BB846-CF42-461B-9863-1B914FC64782
8B0BB846-CF42-461B-9863-1B914FC64782
وائل السواح

باحث سوري في قضايا المجتمع المدني وحقوق الإنسان. عضو في المكتب التنفيذي لرابطة الكتاب السوريين ورئيس تحرير موقع "سيريان أبزرفر" ومسؤول تحرير في موقع الأوان.

وائل السواح