نورث إند.. بداية الشمال أم نهايته؟

نورث إند.. بداية الشمال أم نهايته؟

01 نوفمبر 2015
شباب أميركيون في بوسطن(Getty)
+ الخط -
أميركا وهم يصعب التخلص منه. لا هي حقيقة تصدقها، ولا هي كذبة تفندها..!
أميركا مجال التعدد والاختلاف...مأوى كل تناقضات العالم..

أنت حر إلى درجة أنك تعيش السجن اليومي.. مسيّج بعدد لا يطاق من الحدود التي تفصلك عن الآخرين.. كل القوانين لك..لكنها ضدك..!

"كل شيء يبدو لك سهلا والناس نيام..
إن حاولت القفز سقطت في الهاوية..
أنت كائن فرد محاط بمهاو وحافات..
كن دائما يقظا.. حذرا.. متفطنا.. وإذا غفوت فإن حلمك قد يصبح كابوسا من كوابيس القيامة..!»

هذا ما سمعته من عجوز إيطالي كان يجلس على عتبة حانة قديمة توجد في إحدى أزقة منطقة نورث إند في بوسطن. كان الجو حارا، وأحفاد الإيطاليين الذين اغتنوا وصاروا لوبيا قويا في هذا الشمال الشرقي، يصرخون ويملأون الفضاء بالأعلام الإيطالية والأميركية. إيطاليا أميركا، أو أميركا الإيطالية.
لا تنقصهم سوى اللغة الإيطالية، التي فقدوها واحتفظوا بشحنتها الثقافية ورؤاهم المتوسطية.
تجلس قبالة البحر في حديقة كولومبوس فتعتقد أنك في إحدى قرى المتوسط!

أمر بين الأزقة الضيقة، فتستهويني الورود المتدلية من الشرفات وكأن الشتاء لا يزور بوسطن. أستعجل السير فيذكرني قطع الرخام المتراص على الأرض أن لا مكان للإيقاع الزمني الأميركي في نورث إند. وأستسلم لسلطة المكان.
في الجهة الغربية لشبه الجزيرة محلات يملكها العرب وقد خصصوها لبيع منتوجات الحلال. كأننا بين ضفتي المتوسط. شمال وجنوب. شرق وغرب. لا يلتقيان. وفي محل بيع الحلويات صورة كلينتون وزوجته يلتهمان الحلوى بانشراح يكشف عن إعجابهما.
أرى في الحارات الضيقة عوليس، وعوالم جويس في دبلن. أرى فيها ظل جبران الذي سكن في الحي الخلفي. ولابد أنه مر من هنا، ولابد أن يكون قرع الأنخاب احتفاء بتوصله برسالة من مي.
يوحي لي المشهد بصيف طنجة قبل اثنين وعشرين عاما. خاصة تلك الليلة التي سهرت فيها حتى مطلع شمس يوم جديد وأنا أقرأ ”موت في كاتدرائية“.
فأن تمر بنورث إند وترى السفينة الشراعية الحربية التي تحولت إلى متحف في الضفة المقابلة لرصيف الأكواريوم، لأمر شبيه بالغوص في الذاكرة. ذاكرة البحر. ذاكرة العبور. ذاكرة اكتشاف أميركا والتاريخ الحديث.

يختلط الخليج والميناء القديم وحوض بناء السفن المهجور وجسر طوبن الرابط بين جنوب وشمال الطريق رقم واحد، فتدهش أمام كل هذا الصخب العنيف الصامت في الفضاء. وفي الرصيف الخلفي للأكواريوم تكتشف أن أميركا حقيقة موبي ديك. مصارعة لا تنتهي لهذا الوحش الذي التهم خطاك بدل رجلك.
أعود لقراءة فصول من موبي ديك... أتذكر اليوم الذي زرت فيه متحف نيو بادفرد، وجلست في القاعة المخصصة لهرمان ملفيل، ودخلت السفينة/الباقوطة في القاعة الكبرى للمتحف، ووقفت على ظهرها محاولاً أن أتخيل نفسي وسط المحيط. وقد عشت تجربة مشاهدة الحيتان وسط المحيط قبالة غلوستر... كان مشهدا غريبا، تحس وأنت تشاهد الحيتان، والشمس تميل في اتجاه الغرب، أن ما كتبه ميلفل كان شيئا رائعا.. فقد اختزل الوجود كله على ظهر السفينة.. وجعل مو بي ديك شيئا شبيها بأقدارنا..

قرأت موبي ديك مرات.. ونسيت الكثير من التفاصيل.. لكن ذلك العجوز (المرشد) أدهشني في متحف الحيتان بنيو بادفرد. كان يحفظ الرواية عن ظهر قلب. وحين صعدنا "الباقوطة" كان يحيلني على فصول النص.

منذ ذلك اليوم وأنا أبحث عن متحف أو مكان لجبران خليل جبران في بوسطن ولم أفلح. وفي مدخل العمارة التي توجد في زنقة تيلر في الحي الصيني في الداون تاون بوسطن، لم أجد غير أدراج وباب مسدود وعجوز صيني كان خارجا من باب العمارة ولم يكترث لوجودي..!
قرأت في رسائل جبران أنه لم يكن على وفاق مع بوسطن.. هل تنتقم المدن من الذين لم يحبوها!

المساهمون