نهاية حُلم

نهاية حُلم

18 فبراير 2015

وقفة تضامنية في كاليفورنيا مع ضحايا تشابل هيل (14فبراير/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -

هل يمكن أن تتخيل معي هذا المشهد؟

افترض أنك مواطن عربي، ومسلم، وحاصل على شهادة جامعية في علوم "الطيران المدني"، وتستقل طائرة ركاب أميركية في رحلةٍ انطلقت من القاهرة إلى نيويورك. وما إن دخلت الطائرة الأجواء الأميركية، حتى وقعت اعتداءات 11 سبتمبر/أيلول 2001، حيث اصطدمت الطائرتان ببرجي التجارة العالمي. وفي هذه الأثناء، تم إجبار طائرتك على الهبوط في مطار أميركي، وأُخذت إلى التحقيق، لتكتشف الشرطة الأميركية أنك "عربي، ومسلم، وحاصل على شهادة في الطيران أيضاً".

إنه أكثر من "كابوس"، أليس كذلك؟

لكن، هذا ما حصل، فعلاً، مع شاب فلسطيني، سنطلق عليه، هنا، اسم أحمد.

كان أحمد زميلي في مدرسة الكرمل الثانوية في غزة، عام 1992، وكان يكبرني بعام. في ذلك الوقت، كان أحمد محط أنظار طلاب المدرسة، لجرأته في ملاحقة "الموضة"، والتي كانت من "المحظورات"، في سنوات الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987-1994). لكن أحمد، الفتى الطويل الوسيم، لم يكن يكترث لأحد، ويتفرد من بين طلاب المدرسة بتقليد صيحات "موضة" تلك الحقبة، (والتي تعد محافظة جداً، قياساً بموضة هذا العصر)، فيطيل خصلات شعره المائل قليلاً إلى الصفرة على رقبته، المزينة بسلسال قصير، يظهر من بين ثنايا قمصانه الملونة الجريئة. أما سراويله، فكانت من "الجينز" غير المألوف لنا كطلاب، لكنها كانت تشير إلى أن صاحبها شخصية "متمردة".

انقضت سنوات الثانوية بسرعة، وذهب كل منا في طريقه، ولم نلتقِ إلا مصادفة، بعد أكثر من 12 عاماً، وتحديداً في سنة 2004. لكن أحمد لم يكن هو ذلك الفتى الليبرالي الطموح، المُقبل على الدنيا، بل بدا كهلاً محطماً متنكراً في ثياب الشباب، مهزوز الشخصية، لا تفارق السيجارة يده.

وروى لي قصته التي أوردت بعضاً من ملخصها، وهي بالفعل أغرب من الخيال، وكنت قد نشرتها عام 2004 ضمن زاوية "الحوارات الحية"، في موقع "إسلام أون لاين"، الذي عملت مراسله. يقول أحمد: بعد أن أنهيت الثانوية العامة، سافرت إلى مصر لدراسة الطيران المدني، وكان كل طموحي الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية، والعيش والاستقرار هناك.

تحقق هذا الهدف لأحمد، أو أوشك على ذلك، كما يقول، حيث تمكن بعد انتهاء دراسته الطيران، من الحصول على تأشيرة سفر إلى الولايات المتحدة. وجاء ذلك اليوم الذي طالما حلم به، إنه يوم السفر إلى أميركا، اليوم الذي سيبدأ فيه حياة جديدة، وسينتقل إلى نمط الحياة الذي يريد. استقلّ الطائرة التي انطلقت من مطار القاهرة، في طريقها إلى نيويورك، عابرة المحيطات والأقطار، وحاملة آماله وطموحاته بغدٍ أفضل، غدٍ لا يحمل سوى السعادة والبهجة، غدٍ يودّع فيه كل أشكال الموت والقتل، والألم والمعاناة التي تشرّبها على يد الاحتلال في غزة.

أراد القدر له شيئاً آخر، فقد وقعت اعتداءات 11 سبتمبر، كما أسلفنا، في الوقت الذي دخلت الطائرة فيه الأجواء الأميركية، ليتحوّل إلى متهم بالانتماء إلى تنظيم "القاعدة"، والمشاركة في تنفيذ العمليات. وظل أحمد سجيناً في واشنطن ستة أشهر، ذاق فيها الويلات، قبل أن تتيقن السلطات الأميركية أنه بريء من التهم الموجهة له، وأنه لم يكن سوى شخص ألقى به حظّه العاثر، في أتون "المحرقة". وعلى الرغم من ذلك، لم تسمح له السلطات الأميركية بالبقاء على أراضيها، فقامت بترحيله إلى إسرائيل، ومنها نقل إلى غزة، التي وصل إليها "حُطام إنسان".

واليوم، تتكرر قصة أحمد، في "تشابل هيل"، في كارولينا الشمالية، مع ضياء بركات، وزوجته يُسر، وشقيقتها رزان. فبين قصتهم، وقصة أحمد، ذات التفاصيل، لحكاية نجاح العنصرية والكراهية، في قتل حُلم جميل، حُلم شبّان مَنّوا أنفسهم بمستقبل أفضل، في عالم اعتقدوا أنه "حُر"، فوجدوه "قبراً".

EE1D3290-7345-4F9B-AA93-6D99CB8315DD
ياسر البنا

كاتب وصحافي فلسطيني مقيم في قطاع غزة