موسم الهجرة إلى الجنوب

موسم الهجرة إلى الجنوب

29 مارس 2018
+ الخط -
على خطى مصطفى سعيد، في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال"، الذي انتقل من قريته الصغيرة المتواضعة في السودان إلى شمال أوروبا. يطل بعض العابثين ليقولوا لنا: إن الموسم قد تغير، وإن الهجرة لم تعد فردية شخصية ذاتية الإرادة، ولا روائية الصنعة والتصور، في تحول مذهل يتجاوز جميع الأعراف، والأبعاد السياسية، والجغرافية للصراع القائم مع العدو الإسرائيلي.

صفقة القرن فكرة جديدة وافدة تطرح تصورا فلسفيا ميتافيزيقيا لحل القضية الفلسطينية، يتجاوز في الشكل والنسق والمفهوم جميع الأبعاد والمحددات المعروفة في الماضي، حيث تأتي هذه الفكرة لتطيح بعشرات من الرؤى المنبثقة عن مؤتمر مدريد للسلام، مرورا باتفاقية أوسلو، وصولا إلى مبادرة السلام العربية، التي أطلقها العرب في قمتهم ببيروت، وضربت بها إسرائيل عرض الحائط، رغم ما قدمته هذه المبادرة لإسرائيل من تطبيع شامل ودخول آمن إلى جميع الدول العربية.

وبوصول قطبي الإرهاب شارون في إسرائيل وبوش في الولايات المتحدة، أخذت الرؤيا الدولية لحل القضية الفلسطينية تتقزم في ظل رعاية أميركية حصرية، لما يسمى "بعملية السلام"، وغياب قوة مرجعية دولية قادرة على إلزام وإخضاع العدو الإسرائيلي.


إن جميع المحاولات في تلك المرحلة كانت تقدم حلولا شكلية غير منطقية، تستهدف بالأساس منع قيام دولة فلسطينية على حدود الخامس من يونيو/ حزيران، كذلك كان التصور الأميركي في تلك الحقبة عدميا، يرى ضرورة إقامة كيان كنتوني منزوع السلاح، وذي حدود مؤقتة مع توفير الدعم اللازم له، وإنعاشه اقتصاديا وتجاريا ليبقى قابلا للحياة، وعدم الاعتراف باللاجئين وحقهم الأصيل في العودة إلى مدنهم وقراهم.

على النسق الروائي لسردية الطيب صالح، يبرز إلى حيز الوجود من جديد تصور دراماتيكي خيالي، لحل الأزمة، بتوجيه الشعب الفلسطيني نحو الجنوب، وتوطينهم في سيناء متجاوزا جميع الخطوط الحمراء والنقاط الحرجة في الصراع. ويرتكز جوهر الاتفاقية السردية على: إعطاء ضعف قطاع غزة، أي ما نسبته 720 كيلومترا مربعا إلى الدولة الفلسطينية المستقبلية، مع العمل على رفع مستوى الانتشار السكاني لأهالي قطاع غزة في سيناء.

ورغم ما تطرحه الصفقة من توجه سياسي متفلت، يتجاوز جميع التصورات والمحاولات الكلاسيكية السابقة، يبدو أن العرب متحمسون هذه المرة للفكرة، خاصة المملكة العربية السعودية، التي قدمت مليارات الدولارات مؤخرا لتطوير أراض في سيناء، وبناء المصانع، وإحداث نهضة عمرانية جاذبة للسكان، ومشجعة للحركة السياحية، كما أن الولايات المتحدة تمارس سياستها القميئة، لسرقة حق الشعب الفلسطيني علانية، وتصفية القضية الفلسطينية بالكامل، باعتبار ذلك فرصة ذهبية نادرة في ظل وجود الرئيس اليميني المتطرف "دونالد ترامب"، الذي عبر أكثر من مرة عن عدائه للعرب ولحق الشعب الفلسطيني في إنهاء الاحتلال وإقامة دولته المستقلة.

كان من المفترض، بل من الواجب، أن يزحف اللاجئون والمشردون في مخيمات الشتات إلى الشمال، حيث أرضهم ومزارعهم وديارهم، التي أجبروا على مغادرتها على وقع عشرات المذابح ومشاهد الإبادة الجماعية، غير أن هذا الحل السريالي المتشنج يعرض توجها عكسيا تماما، معتبراً أن مفاتيح الحل تكمن في توطين الفلسطينيين في سيناء وتهجيرهم نحو الجنوب على قاعدة "الوطن البديل".

إن صفقة القرن مصطلح سياسي مترد بمفهومه الأخلاقي الوطني الإنساني، لم تألف آذاننا على سماع هذه الأبجديات السياسية في الأدبيات السياسية القديمة والمعاصرة. عندما يفكر الإنسان مليا في هذا المصطلح الوافد، ويتأمل مدلولاته وإيحاءاته السياسية، ينتاب المرءَ شعورٌ متزايدٌ أن القضية أصبحت في مفهوم المجتمع الدولي والقيادات العربية على السواء سلعة تباع وتشترى في أسواق المزايدة مقابل تقديم بعض المنافع المادية والمنح الاقتصادية.

صفقة القرن تبشرنا بأن الصراع العربي الإسرائيلي قائم بالأساس على أسباب ودوافع اقتصادية، لا علاقة لها بالتاريخ والسياسة والعقيدة حتى القرارات الأممية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية على إجحافها وانتهاكها للحق التاريخي للشعب الفلسطيني.

بعد مائة عام على العذاب والتضحية، وعلى أنقاض عشرات المذابح، وعلى أطلال عشرات الفيتوهات الأميركية، وعلى وقع عشرات الاتفاقيات والمعاهدات المستباحة، ما يزال بعضنا يؤمن بالمزيد من التنازل ليفطر الشعب الفلسطيني بعد صومه المتواصل على جيفة ألقت بهذا السباع بعد انفضاض المائدة. فهل يعقل أن ينحدر بنا السقوط الى وادٍ غير ذي قاع؟!

إن رحلة البحث عن الوطن تتجه نحو الشمال لتحرير الأرض واستعادة الحقوق، وليس من المسموح أبدا تغيير معالم الرحلة وحرف البوصلة نحو الجنوب للاستحواذ على أرض خارج الحدود الحقيقية للصراع.

إن هذا الحل العقيم لا يساهم في تضميد الجرح، بل يعمل على تعميقه وتسميمه بالكامل، وخلق جروح أخرى كثيرة، فإسرائيل هي الدولة المحتلة المعتدية، والقدس ويافا وعكا هي الأرض التي يجب أن نعود إليها.
0129593C-65A2-4C3D-AA26-DD2357446546
معاذ محمد الحاج أحمد

كاتب وباحث فلسطيني عضو رابطة الكتاب والأدباء الفلسطينية، له أبحاث في التسويق السياسي، يعمل لدى وزارة التربية والتعليم.