موتٌ في المنفى

موتٌ في المنفى

25 يوليو 2018
مي سكاف في جنازة فدوى سليمان(زكريا عبد الكافي/فرانس برس)
+ الخط -
"لن أفقد الأمل... لن أفقد الأمل... إنها سورية العظيمة وليست سورية الأسد". كانت هذه العبارة آخر ما كتبته مي سكاف على صفحتها الشخصية على فيسبوك، قبل رحيلها منذ يومين، وكأنها تسلم جمهورها راية الثورة من بعدها. 
سواء كان سبب وفاة مي نوبة قلبية، كما أفادت الأخبار الأولية، أو بفعل فاعل، كما تحوم الشكوك؛ فإن هذا أو ذاك لن يقلل من حجم المأساة ولن يخفف مرارة الألم، فرحيلها في المنفى بعيداً عن سورية التي أحبتها، وحرمانها من حقها بمعانقة تراب الوطن الذي حاربت من أجل حريته، يمثل الجانب الأكثر قسوة في هذه المأساة.

الشاعر والشاعرة
إنها المأساة التي تتكرر كل مرة. ففي حقبة حكم الأسد، الأب والابن، تم تهجير عدد كبير من الفنانين والأدباء ممن أعلوا صوت الحق وعبروا عن معارضتهم، وقضى هؤلاء نحبهم في منافيهم الاختيارية؛ كما حدث مع الشاعر نزار قباني، الذي قضى نحبه سنة 1998 في مدينة لندن، التي أمضى فيها آخر 15 عاماً من عمره، بعد أن حُرم من دخول الأراضي السورية؛ وبقي حب الوطن مغروساً في قلب شاعر المرأة والوطن، فأوصى قبيل رحيله بأن يدفن في مدينة دمشق التي ترعرع بها. ولم يتمكن من العودة إلى مسقط رأسه إلا بعد أن وافته المنية، حيث استجابت السلطات السورية حينها إلى طلب قباني الأخير، ووافقت على نقل جثمانه إلى دمشق ليدفن في مقبرة "باب صغير"، بعد أن جاب جثمانه شوارع دمشق بحضور جماهيري حاشد، قابله حضوره أمني كثيف.
لكن تلك الرفاهية التي تنعّم بها بعض الفنانين والأدباء المعارضين في حقبة حافظ الأسد، المتمثلة بالعفو عنهم بعد الموت، والسماح لأجسادهم بالنوم في حضن الوطن، لم ينعم بها الفنانون المعارضون في حقبة بشار الأسد؛ فمنذ أن اندلعت الثورة السورية سنة 2011، توفي العديد من الفنانين والأدباء في منافيهم، ودفنوا فيها. ففي العام الماضي، توفيت الممثلة والشاعرة السورية فدوى سليمان في باريس أيضاً، وتم تشييعها في العاصمة الفرنسية، ودفنت في مقبرة "مونتروي"، بعيدةً عن زوجها وابنها، اللذين لا يزالان يعيشان في العاصمة السورية دمشق، ومن دون أن يتسنّى لعدد كبير من أصدقائها وأقاربها حضور التشييع الأخير، نظراً إلى صعوبة حصول السوريين على تأشيرة دخول إلى الأراضي الفرنسية؛ ليكتفي عدد كبير من محبيها بتشييعها - مرغمين- عبر وسائل التواصل الاجتماعي، التي تحولت حينذاك إلى صالة تُقبل بها التعازي.



رحيلان
الأمر ذاته يتكرر اليوم، حيث بدأ أصدقاء مي سكاف ومحبوها بتشييعها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتحولت صفحة مي الشخصية على فيسبوك إلى مزار، يتصفحها محبوها بدلاً من زيارة قبرها، في الوقت الذي يحتفل فيه الفنانون السوريون بالداخل في الذكرى الثمانين للتلفزيون السوري.

وهنا، يجب التأكيد على أن مي سكاف وفدوى سليمان لم تخرجا من سورية بإرادتهما، بل إن خروجهما جاء بعد أن تعرضتا لسلسلة طويلة من المضايقات تخللتها الاعتقالات التعسفية والتعذيب والتهديدات والحجر الفني؛ فمنذ أن اندلعت نيران الثورة السورية في درعا كان موقفهما واضحاً جرّاء ما يحدث؛ فمي سكاف وقعت على بيان "نداء الحليب"، الذي تسبب بإيقافها عن العمل، بعد أن توحدت شركات الإنتاج السورية، بقيادة نجدة إسماعيل أنزور، لمحاربة كل فنان وقف إلى جانب الثورة ووقع على البيان. واعتقلت مي في عام 2011 أول مرة، بعد أن شاركت في المظاهرة التي دعي إليها المثقفون والفنانون في منطقة الميدان، في العاصمة السورية دمشق، ورغم ذلك رفضت مي الخروج من سورية حينها، لتبقى شعلة الثورة متقدة، ولم تقدم على هذه الخطوة حتى عام 2013، بعد أن تعرضت للاعتقال للمرة الثانية، لتخرج بعدها إلى الأردن، ومنها إلى فرنسا، لتتحول صفحتها على فيسبوك إلى منبر من منابر الثورة. والأمر ذاته ينطبق على فدوى سليمان، التي لم تخرج من سورية إلا مجبرة، بعد أن أمضت عامين في شوارع حمص، تلعب دوراً قيادياً في المظاهرات والحركة الشعبية؛ وخرجت عام 2013 من سورية خلسة إلى الأردن، ومنها إلى فرنسا، برحلة مشابهة لرحلة عرابة الثورة السورية، مي سكاف.
وفي الخارج، استمرت الثورة وولد حلم العودة، وظل صوت مي يصدح بشعارات الثورة الأولى، وكأن الثورة تتجدد كل يوم لديها. كان الأمل برحيل الأسد كبيراً في البداية، والآمال كلها منصبة على العودة إلى الوطن بعد رحيله لبناء سورية التي نرغب بها، سورية الحرة. ومع الوقت بدأت الأحلام تتضاءل وتتلاشى، لكن حلم العودة لم يخفت بريقه أبداً؛ وآخر ما تبقى من آمال مي سكاف وأحلامها هو ألا تموت في المنفى، فأكثر ما كانت تتمناه في الأيام الأخيرة هو الموت في سورية، وأن تدفن في تراب بلدها، كما حدث لنزار قباني؛ إذ كتبت على فيسبوك مؤخراً: "ما بدي موت برات سورية .. بس". لكنّ الوقت داهمها، ولم يمهلها. كانت تتأمّل بأن تعود يوماً ما إلى بلدٍ حرّ، من دون حرب؛ بلد يحترم التعددية والاختلاف. إلا أن كل هذا لم يحدث، ولن.. ويبدو أن الليل، هذه المرة، طويل.

المساهمون