من تقاليد المخزن!

من تقاليد المخزن!

08 مارس 2018
+ الخط -
ما زال كثير من المغاربة يَرَوْن في "المخزن" واقعاً حياً ماثلاً أمامهم، وسلطة حاكمة لا تتغير من حيث أساليبها وسياساتها، إذ ثمة استمرارية مثيرة بين الماضي والحاضر!

وبتجاوزنا الدلالات اللغوية لمفهوم "المخزن"، نستقر عند المخزن كمؤسسة حاكمة، ائتلاف مصالح يتشكل من حاشية البلاط الملكي، وكإدارة بدائية أو أداة قمعية ذات طابع قبلي (ربط المخزن بالقبيلة)، وهي نظرية تمتد جذورها إلى ابن خلدون الذي اعتبر أن الصراع بين سكان البوادي أدى إلى خلق جهاز مخزني وقيام سلطة سياسية، وفي المقابل قدم الأستاذ العروي مفهوماً أكثر اتساعاً حيث اعتبر المخزن "هو ذاك المجموع المركب من عناصر مختلفة، ذات وظائف مختلفة، إدارية صرفة وأخرى أمنية ثم اجتماعية ورمزية. والغاية الكبرى لتلك العناصر هي ضمان استمرارية الدولة وسيادة سلطة السلطان، وبهذا المعنى فالمخزن جماعة من الأفراد الذين تؤلف في ما بينهم المصالح المادية والمطامح للاغتناء والثروة، وأداة في يد الدولة لضبط الرعية وخلق التّوازن.

بالرجوع إلى البنية السياسية لمغرب ما قبل الحماية، تميّز النسق السياسي المغربي ببنية تقليدية تتشكل من المخزن والقبيلة ثم الزوايا، إذ "لم يكن هناك في سنة 1912 فارق بين التنظيم السياسي للدولة العلوية والنظام الذي بناه السلطان الكبير مولاي إسماعيل في القرن السابع عشر، ولم يطرأ أي تغيير على النظام لأن المشاكل الداخلية ظلت على حالها"، وتتلخّص وظيفة المخزن في جباية الضرائب، وتنظيم الجيش، وقمع القبائل، إذ كانت تتركز مهام حكومة السلطان في جمع الضرائب "النقدية والعينية"، وغالباً ما كانت القبائل والزوايا والشرفاء تتحالف لرفض الضرائب، تلك التي تصرف في تمويل الجيش وسحق القبائل لجباية مزيد من الضرائب، في المقابل ظلت قبائل الجبال المتمردة في عصيان مستمر تسعى من خلاله إلى التخلص من سلطات القواد ومسلسل الرعب المستمر في نهبهم وهي بذلك تميز السلطان كسلطة دينية عن المخزن، بينما اعتادت قبائل السهول الساحلية الخضوع للمخزن والرضوخ له مشكلة بذلك نواته، وعليه كان العنف نظاماً دائماً وأسلوباً يفرض نفسه في هذا النسق.


وعن أساليب المخزن وسياسة تحالفاته كتب عالم الاجتماع جون واتربوري: "كان التهديد بالقسر يتخلل باستمرار علاقة السلطان برعاياه، إلا أن العاهل لم ينفرد أبداً بوسائل القوة، وبما أن قوة المخزن كانت رهينة بقوة حلفائه، فقد تحتم عليه أن يقوم بين كل حملتين عسكريتين بسياسة تحالفات، أي الوجه الآخر لأسلوب أعم وثابت، أسلوب "فرق تسد"، نادراً ما كان المخزن في حاجة إلى استعمل العنف، حيث يلجأ إليه عند فشل أساليب أخرى أقل كلفة وأكثر سلمية، وتتلخّص تلك الأساليب في الانحياز في النزاعات المحلية، وإذكاء المنافسات وإعطاء الأفضلية لبعض الأطراف بواسطة الامتيازات الممنوحة، ومعاقبة أطراف أخرى تفرض عليها غرامات باهظة".

وخلال فترة الحماية عملت إدارة الاستعمار الفرنسي على تحويل دور المخزن وحافظت على نوع من الاستمرارية إزاء تقاليد الماضي، ففي الفترة الممتدة ما بين سنتي 1912 و1934، قضي على بلاد السيبة (القبائل الثائرة الرافضة لسلطة المخزن)، وجرت السيطرة عليها، وبين سنتي 1912 و1955 تغير الإطار السياسي رأساً على عقب، كما قويت وتوسعت بنية المغرب الإدارية على حساب الزوايا والقبائل وتعرض الاقتصاد التقليدي لتغيير شامل، كما عرف جهاز المخزن انفتاحاً على التقنيين الأجانب، ويمكن القول إن الفرنسيين استطاعوا اقتحام عالم السلطنة المغلق والعتيق، ثم خرجوا منه بعد أربعين سنة، وورثت الدولة المغربية المستقلة بعده نظاماً إدارياً حديثاً ما زال يلجأ، باستمرار، إلى استعمال أساليب المخزن القديمة على الرغم مما يتمتع به من "عقلنة وحداثة". ومحاولة منا لفهم الأسباب على الرغم من تعددها نقتصر على "المخزنية" المرادفة للسلطة، إذ لا يعتبر المخزن السلطة وسيلة عمل إيجابية قادرة على البناء وفتح سبل جديدة نحو المستقبل ولا وسيلة لخدمة المجتمع وتطويره، هذا لإن تكتيك الدفاع يفرض نفسه على النخبة المخزنية التي تستعمل السلطة السياسية بطريقة دفاعية ووقائية من أجل المحافظة على ثرواتها وتكديسها وحرصاً على الإبقاء على امتيازاتها أو طمعاً في الحصول على امتيازات جديدة، ولقد لعبت صراعات النفوذ والتناور دوراً مهماً على مستوى النخبة المخزنية لأن القلق حول المستقبل وأنانية أعضائها كانا يزيدان من احتدام الطموحات، ومن إشباع رغبات اللحظة الآنية، ولهذا يعتبر المخزن سيد المناورات؛ يعرف كيف يبعد جميع من يخشى أن يوحوا إليه بقلق أو خطر من دون أن يأبه بما قد يلحق البلاد من ضرر، أو يشوه صورتها، إذ يركز كل جهوده على التمتع بملذات السلطة، وما زال الوصف الذي أعطاه هنري تيراس للعوائد السياسية للمخزن محتفظاً بكل قيمته.

لم يشكل المخزن سوى ائتلاف مصالح، إذ لم يكن يمثل فكراً بناء أو إرادة موحدة، بل كان هدفه الأسمى ينحصر في البقاء لفائدة الجماعات والأشخاص الذين يكونونه.

باختصار يعد المخزن ظاهرة لازمت تاريخ المغرب منذ زمن بعيد، ظاهرة تجسدت عبرها آليات الحكم بين الدولة والمجتمع عبر هرمية رمزية وإدارة بيروقراطية، وأساليبه وسياساته في مجملها تقاليد عريقة ذات نمط وراثي تتجسّد في سلوكات النخبة المخزنية وتركيبها الذهني، وبين هذا وذاك ما زال الوضع السياسي المغربي المعاصر يخضع لهذه الظاهرة، فلا النظام الملكي الحالي ولا المغاربة قد تخلصوا من هذا الموقف العتيق.

دلالات

78912033-7E66-45FF-ABBA-99956BEAEB94
فاطمة بو دبوش

أنا كمغربية أمازيغية وعربية لا أعتبر نفسي حرة ما دامت فلسطين محتلة.