مفكّر القومية مات في "أرض الإمبريالية"

مفكّر القومية مات في "أرض الإمبريالية"

28 اغسطس 2014
+ الخط -

يعكس رحيل المفكر القومي نديم البيطار في أرض "الإمبريالية الكونية" مأزق الفكر الوحدوي ورجالاته الكبار لجهة علاقتهم مع المنفى والسلطات "القومية" المستبدة في "بلاد العرب أوطاني". فرغم أن هؤلاء محسوبون على التيار القومي، إلا أنهم مطرودون من جنات العروبة، لائذون بمنافي "أعلى مراحل الإمبرالية".

فلمَ؟ لمَ ارتبطت القومية والعروبة باسم دكتاتوريين مثل حافظ الأسد وصدام حسين ومعمر القذافي، ونأت بنفسها عن مفكرين أفنوا حياتهم في سبيلها، مثل قسطنطين زريق ونديم البيطار، وعملوا الكثير لإبراز وجه العروبة الناصع بدلاً من عروبة الموت والاستبداد والقتل والشوفينية التي فرّخها هؤلاء الطغاة؟

إنه واحد من أسئلة كثيرة تدور في رأس المرء وهو يتأمل رحيل صاحب "سقوط المثقفين العرب" و"المثقفون والثورة". تضاف إلى ذلك أسئلة تتعلق بأسباب غياب هذا الفكر العقلاني العلمي عن خارطة البلدان والناس وعدم قدرته على التأثير بهم، مقابل الحضور المكثّف والشديد للفكر الغيبي الأيديولوجي الذي طبع أكثر من نصف قرن من تاريخ العرب الحديث، مقدّماً أسوأ وأردأ نماذج التطبيق التي شهدتها البشرية بما لامس حدود التوتاليتاريات النازية والفاشية. ولعل بعثَيْ العراق وسوريا خير دليل، سواء في تناحرهما في ما بينهما، أو في ظلم شعوبهما وتدمير أوطانهما، من دون أن ننسى التجربة القذافية التي وصلت حدود الخرافة.

هذا الفكر كان ضحية الأنظمة القومية المستبدة قبل غيره، لأنه كان عدوّها اللدود، ومنافسها على امتلاك "الحقيقة العلمية" للقومية التي لم تكن تريد تلك الأنظمة منها أكثر من أن تكون أيديولوجية تعمي الأبصار وتقود "القطيع" حيث تشاء. في هذا الوقت، كان البيطار يحفر عميقاً في جذور المعرفة والمجتمعات والأيديولوجيات، باحثاً عن قومية لا تناسب تطلعات الحكام ولا تركن لشعبوية الشعوب التي تبتغي طريقاً سهلاً ومعبّداً بالورد.

ولعل عناوين كتبه، وحدها، تدل على طريق الشوك الذي كان يدعو إلى سلوكه بدلاً من الطريق السريع الذي عبّد درب الدكتاتوريات وسهّل لها الاحتفاظ بالسلطة. هكذا، عرفناه ناقداً السلطات وأيديولوجيتها عبر عناوين من قبيل "الأيديولوجيا الانقلابية" و"من الحقيقة الإنسانية إلى الحقيقة الانقلابية"، نابذاً الانقلاب الذي شرّعته "قومجيات" المستبد بغية الاحتفاظ بالسلطة، ومحاسباً أيضاً الجماهير والمجتمعات. ولهذا، كان الراحل دائم البحث عن "فكرة المجتمع العربي الجديد".

قومجيّو الاستبداد لم يقطعوا مع الميراث دون الوطني؛ إذ بمجرد وصولهم السلطة، عملوا على تجيير هذا الميراث العقيم (طائفي، إثني، قبائل، عشائر...) لصالح بقائهم، تاركين "المجتمع العربي الاشتراكي الموحّد" كأيديولوجيا تطفو على السطح لتخدير الجماهير، في الوقت الذي كانت أجهزة الأمن تدير الموزاييك الطائفي - الإثني وتخلّده، طاردة المثقف والمجتمع والمستقبل الذي نراه اليوم على هيئة "داعش" و"النصرة". ألم تتحالف "داعش" مع البعثيين القدامى في العراق؟ أليس لأنّ "البعث" العراقي لم يكن إلا بعثاً سنياً في عمقه، في حين لم يكن "البعث" السوري إلا بعثاً علوياً - شيعياً، ولم يفعل القذافي، في الوقت نفسه، إلا أن بعث القبائل من رمادها؟

لعل وصية البيطار القائلة بأن يجري الاستغناء عن مراسم الدفن التقليدية، وحرق جثمانه ونشر رماده على الحدود بين مصر وليبيا، تدل على المسافة الفاصلة بين قوميتين؛ إذ لم تتجاوز قومية هؤلاء حدود المقدس الديني الذي حافظت عليه، في حين تشي وصية الرجل بأن مبضعه وصل جذر الثقافة بشقّيها العروبي والإسلامي، فمن يطلب دفناً كهذا يكون قد تجاوز تقليديات الدين الذي طالما ترادف مع العروبة لدى بعضهم.

ألم يصبح صدام حسين متديناً في أيامه الأخيرة؟ ألم يقل الأسد الابن بأن الإسلام الشامي هو الحل بعد أن كان أبوه دجّن إسلاماً على مقاسه إثر أزمة ثمانينيات القرن الماضي؛ إسلاماً رأيناه في رجل الدين محمد سعيد رمضان البوطي الذي كان يطلّ من منابر النظام الإعلامية أكثر مما يطل أي قومي من الدرجة العاشرة؟

أليس لهذا يموت البيطار في "أرض الإمبريالية" في حين ترفضه أنظمة "قومية" و"علمانية" هيّأت أرضية صالحة لـ"دواعش" اليوم؟

المساهمون