مصر والوجع الديمقراطي

21 ابريل 2014

رسم غرافيتي في ميدان التحرير نوفمبر 2011 (أ.ف.ب)

+ الخط -
تكشّف العالم العربي عن واقع جديدٍ، بعد ثورات الربيع العربي، والتي لم يقف شيء ضد إحساس كل فرد حرٍّ فيها بأنّها، ومنذ بدايتها، تمثله. وعلى الرغم من تفاقم نتائج ما بعد الثورات على دول الربيع العربي، إلّا أنّ مصر تراءت، ابتداءً، وكأنّها الأقرب إلى الاستمرار في تحقيق مطالب الديمقراطية. ما توافق عليه الشعب من دون تأثيرٍ، أو ضغوط، وحجم التوقعات ذاك كان بمقدار من الضخامة التي عمّقت، فيما بعد، شعوراً بغبن الانتكاسة، المتمثلة في رفض خيار الشعب الذي اشتعل توقاً للحرية.
تقدمت مسيرة الربيع العربي، وسط أصوات متعالية، وصَمَتْ الثورة بأنّها مقدمة للفوضى، وكأنّ القدر يستجيب، فيتم إحكام القيود، حتى لا تتمدّد ظلال هذا الربيع العربي المتفاوت، وتتسع رقعتها. ولأنّ الحالة المصرية فريدةٌ من نوعها، إلى حدٍّ كبير، فقد تجاوز تأثيرها المحتمل حدود هذه الظلال، حتى شعر التوّاقون إلى الحرية بأنّهم أصبحوا رمزاً لما قبل الثورة وبعدها. وتبرز فرادة التجربة المصرية، أيضاً، في أنّ هدم حاجز الخوف، والذي صُنع من كبت التناقضات السابقة، أرسى قواعد لأسئلة كبرى، قد تعمل الإجابة عليها على عتق أصحابها، للتطلع إلى مصر كحاضر وطني حافل.

ولأنّ الأمور لا تمضي على النحو المأمول دوماً، فقد تباعدت الأهداف الموضوعة على الخريطة الثورية، ليس داخلياً فقط، وإنّما في الصورة من بعيد إقليمياً ودولياً. فقد أيّد الغرب الثورة، وهو يحمل، في جيبه، تأييداً آخر للبديل، ولو كان مستبدّاً، ما دام يملك ما يكفي من السيطرة والقمع، لتمرير مصالحه هناك.
ولئن تم دمغ الحقيقة المرّة من نتائج تجارب الحكم على مرّ التاريخ العربي بأنّ الطبع يغلب التطبع، فواضحٌ، في الحالة المصرية، أنّ الاستبداد جار على الديمقراطية، حتى عندما تلبّس بلبوسها. والطبع الغلّاب هذا احتوى الأجهزة العدلية، وأجهزة الخدمة المدنية، لمصلحته القائمة، بدلاً عن مصلحة البلاد القومية، حتى تماهت الحدود بينها.

ينظر الناس، الآن، إلى المشروع الوطني في مصر بعينٍ لا تخلو من ذهول، بسبب انفراط عقد الأهداف، والاحتكام إِلى صيغةٍ جديدةٍ، تدعم وتؤمن الارتهان إلى سلطة أوصياء لا شركاء. حتى التسميات باتت باهتة، ما المعارضة، وما السلطة؟ ومن يعترض على سلمية المعارضة، أو يرفضها؟ ومن ذا الذي يعتبر منقسماً على برنامجه المتحوّل عن قبول الآخر كأول درس في مبادئ الديمقراطية.
ما يحدث في مصر الآن ليس امتحاناً لقوة الشعب، ولا مقارنة بمقدار ما يحتويه من طاقة، إنّما شيء ما يساهم في تغبيش مدى الرؤية في الأفق، فتولد شروخ، يساهم من اتساعها الاستخدام المباشر للمفردات الوطنية. فمن أيّ رحم تولد الديمقراطية، حقيقية، توافقيةً أو تعايشية، والمعنى الأم تفكك مفهوم التوافق عند قدميه، عندما استبدل الرأي الحر باسترضاء الأكثر قوة، وقام بتجيير رغباته، لجعلها برغبات الثورة، وطموحات شعبها أشبه.

هناك محاولات لتوظيف الفضاء السياسي المصري، بما لا يقبل الجدال، حول عدم احترام التعدد السياسي، فها هو، مثالاً، عضو في المجلس القومي لحقوق الإنسان، وعضو سابق ومنشق حالياً عن جماعة الإخوان المسلمين، تأخذه العزة بالانشقاق على مبادئه التي اختارها سابقاً. تطوع في استضافته، في فضائية عربية، بالتنازل، طيلة اللقاء، عن مبادئ حقوق الإنسان، إلى درجة يمكن تصنيفها بأنّه محرّض ضد هذه الحقوق، وليس مدافعاً عنها. ولم يكتفِ بذلك، بل وجّه الأنظار إلى المنشق عنهم، وكأنهم كائنات هلامية.
باتت العملية السياسية في مصر لا تدار وفق رؤية متوافق عليها، ما عمّق من شك المواطن في جدواها، وركونه إلى رؤية سوداوية. ومن آخر تمظهرات غياب التوافق، قرار حظر حق الانتخاب عمّن توافق عليهم بالأمس، ومارسوا حقهم الدستوري والوطني. هذا المنهج جعل الشعب يستند، بدوره، على منطق احتواء العنف وامتصاص رفع الصوت، فغابت دولة المؤسسات، عندما تم حظر الحوار المجتمعي الذي ينبغي ألّا يستثني أحداً.
لا يُجدي التمني وحده بألّا يعيد التاريخ نفسه أبداً. ولكن، في الوسع الاعتبار والعظة بعدم افتراض أنّه، بعد طول هذا الطريق، وبعد خوض غماره، وتحمّل سنان شوكه المجبول بدماء الشهداء، يتم استصعاب الوصول إلى الديمقراطية مرة أخرى. وهذا لن يكون إلّا مساوياً للاستغراق في وهم انتظار أن يقدمها عسكري على ظهر دبابة.
8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.