مرزاق علواش: ليل المدينة الطويل

مرزاق علواش: ليل المدينة الطويل

20 يونيو 2015
(لقطة من الفيلم)
+ الخط -

حلّ فيلم "السطوح" للمخرج الجزائري مرزاق علواش ضيفاً على "مهرجان السينما العربية والمتوسطية"، الذي اختتم فعالياته أخيراً في مدينة وهران. الفيلم الذي صوّره علواش خلال فترة زمنية قصيرة لا تتعدّى الأسبوعين، ظهر وكأنه تحدٍّ جديد للأصوات التي انتقدت أعماله الأخيرة، متهمةً إياه بالقسوة في نقل الحياة الاجتماعية وتعقيداتها المرتبطة بالفساد والدين والجنس.

على خمسة أسطُح في خمسة أحياء من العاصة الجزائرية، وعلى وقع خمس صلوات، ينسج لنا صاحب "عمر قتلته الرجولة" حبكة سردية تشترك فيها عناصر المخاض الجزائري الأليم وتخيّم عليها آثار "العشرية السوداء" التي عاشها الجزائريون في تسعينيات القرن الماضي. ولا يبدو اختيار علواش التجوّل فوق أسطُح العاصمة أمراً عرضياً؛ إذ تشكّل تلك السمة المكانية المشتركة للقصص الخمس فضاءً رحباً يسمح، من جهة، بالإطلال على العاصمة من علٍ، بعيداً عن ازدحام الأحياء الشعبية. ومن جهة أخرى، يمكّن الكاميرا من تركيب مشاهد بصرية عالية الجودة.

على السطح الأول، تغيب الصورة ويخرج صوت أحد الأشخاص وقد قُيّد بالسلاسل وسُجن داخل قفص خشبي ضيق. يتحدّث عن النضال والمقاومة والاستقلال، ويعود به الحنين إلى حرب التحرير وصرخات رفاقه الأبطال. مع تتالي الأحداث، يأتي عند موعد صلاة الظهر شاب متدين (نعرف لاحقاً أنه أخو الرجل المسجون وقد سجنه ومنعه من الكلام لأن الظروف تغيّرت) مع مجموعة من الشباب المتدينين، ليستمعوا إلى خطبة الشيخ التي يمتدح فيها العقيد معمر القذافي. كما تظهر عملية تبادل مخدّرات تجري بعد إتمام الصلاة. في كل فصل يترافق مع صلاة زمنية، تظهر فتاة صغيرة تدأب على إحضار الطعام للرجل المقيّد وتطلب منه أن يروي لها حكاية. وفي الصلاة الأخيرة (العشاء) تطلب الفتاة من الرجل أن يتحدّى هذا الظلام ويخرج إلى الشمس.

لا يخفي المخرج رغبته في تجسيد حيثيات التشابك الذي خلّفه تعاطي الحكومة مع ملف الإسلاميين، فيصبح السرد على لسان الرجل ترميزاً دلالياً، أراد منه المخرج الإشارة إلى العفو العام الذي طاول متطرّفين متورّطين بسفك دماء كثيرة خلال "العشرية السوداء"، فيما يرزح بطل وطني من زمن الاستقلال في قفص مظلم.

على سطح في حي "الجزائر الوسطى"، آسيا تعزف الموسيقى مع فرقة من الشباب، وعلى سطح مقابل، تقف نايلة، تستمع إلى الغيتار مبديةً إعجابها بما تقدّمه آسيا. سرعان ما تتعلق نايلة بآسيا وبفنها وتبدأ الفتاتان بتبادل الرسائل، إلى أن تتعرض نايلة للضرب على سطح منزلها من قبل شاب لا نعرف صلة القرابة التي تجمعه بها. فتتوقّف آسيا عن العزف، ثمّ تتلقّى مساءً رسالة هاتفية من نايلة، فتسرع لملاقاتها على السطح، وإذا بنايلة تهوي إلى الأرض من أعلى سطحها.

في حي "بلكور"، تغيب الملكية الشخصية للسطح هذه المرة، ويظهر -تارةً- ملاكم يتدرّب، وطوراً تنتقل عدسة الكاميرا إلى غرفة فيها شيخ يستقبل نساء متزوجات يشتكين من مشاكل مع أزواجهن، ليساعدهنّ الشيخ على إخراج الجن الأحمر من أجسادهنّ عبر الضرب المبرح، في إشارة واضحة إلى التعويض عن النقص الجنسي الذي يعانين منه.

ثلاثة رجال يقومون بتعذيب رابعٍ على سطح في حي "السيدة الأفريقية"، ويطلبون منه التنازل عن توقيع عقد يخلي بموجبه المبنى قيد الإنشاء. يستمر تعذيب الرجل، ويتقاطع الأمر مع دخول فريق تصوير سينمائي إلى المبنى، فيتعرّض أعضاءه إلى إطلاق رصاص. وينتهي الفصل الأخير متزامناً مع صلاة العشاء، كما كل القصص السابقة، بمقتل الرجل صاحب المبنى.

في حي "باب الواد" الشهير، تعيش سويلمة، امرأة في العقد الخامس، مع ابنة أخيها عائشة التي لجأت إلى العاصمة بعد أن تعرضت للاغتصاب في وهران في فترة العشرية. تعيش عائشة حالة صمت وكآبة ولا تتعرف إلى ابنها كريم الذي يتعاطى المخدرات. مع تسلسل الأحداث، يطلب صاحب الغرفة من سويلمة إخلاءها، فيتصادم مع ابنها. عندئذ، تضرب سويلمة الرجل بالطنجرة على رأسه، ليموت على الفور. يستعين نجل الرجل المقتول بأحد رجال الشرطة -الذي كان شيوعياً قبل أن يتوظف في السلك العسكري- ليساعده على معرفة مصير والده، فيخفي الشرطي الحقيقة، ويطلب من العائلة رمي جثة الرجل في البحر ليلاً.

تستحيل سردية الفيلم من دون العودة إلى البنية الطبقية للشخصيات. ولا يمكن تأطير المشاهد من دون استواء العوامل التي تحكم الصور من الفساد الحكومي، مروراً بالإيحاء بعلاقة مثلية ورفضها بشكل قاطع، واستغلال الدين لغايات الجنس والربح المادي، وصولاً إلى مأسسة ثقافة تتعلق بالإسلام وتجسّد العنصر الأيديولوجي كعنوان يتقدّم على كل ممكنات الحياة اليومية للجزائريين. وعليه، يبدو العنف الذي يعصف بكل "السطوح" تقنيناً لهذا المخاض البانورامي الذي تعيشه أحياء العاصمة بعد سنوات من القتل اليومي، ويصبح المشهد الأخير، حيث ترمي العائلة جثة الرجل المقتول في البحر، رمزياً للغاية، كما لو أنّ المدينة ترمي فقراءها في ليلهم الطويل.

المساهمون