وخلال الأيام الماضية، شهدنا نقاشات مختلفة وكُتبت مقالات عديدة عن الخصخصة والإصلاح الاقتصادي في السعودية تحديدا، وذلك كرد فعل وتفاعل مع برنامج التحول الوطني، إعلان الميزانية السنوي، وتصريح ولي ولي العهد لمجلة إيكونوميست، حيث كان موضوعا الخصخصة والإصلاح الاقتصادي جزءا أساسيا من جميع ما تقدّم. الغاية من هذه المقالة هي إلقاء الضوء على بعض مساوئ الخصخصة وآثارها السلبية، لاسيما في دول ريعية.
بداية، تعرف الخصخصة بأنها عملية تحويل رأسمال اقتصادي حكومي/ عمومي إلى القطاع الخاص بشكل جزئي أو كلي. توسعت مشاريع الخصخصة عالميا في الثلاثة عقود الأخيرة من القرن الماضي كواحدة من خصائص النموذج الاقتصادي النيوليبرالي ثم سياسات (توافق واشنطن) سيئ الصيت، وأيضا كانت وما زالت أحد شروط صندوق التنمية الدولي والبنك الدولي من أجل تقديم الدعم المالي للدول المحتاجة أو المأزومة اقتصاديا.
للخصخصة فوائد وإيجابيات يتم تداولها عادة من قبل المنادين بها، لكن، وبلا شك، ليس هناك ما يضمن الحصول على هذه الفوائد. من الإيجابيات "المدّعاة" هو أن لها دورا فاعلا في تحسين معدلات النمو ومعدلات الدين العام ومعدلات عجز الموازنة، بالإضافة إلى قدرتها على تمويل وتطوير مشاريع البنى التحتية، ورفع مستويات المعيشة على المدى القريب، وتوفير خدمات وسلع أفضل بأسعار أقل.
لكن، كما ذكر أعلاه، ليست هناك ضمانات على أي من هذه الإيجابيات. بل إن آخر الإيجابيات المذكورة تكاد تكون وهما في وضع دول الخليج الحالي؛ نظرا لأن شعوبها عاشت في ظل رفاهية نسبية إبان ارتفاع أسعار النفط خلال العقد الماضي، لذا فلن تكون الخصخصة قادرة على صناعة فارق كبير للمواطنين/ المستهلكين مقارنة بما كانوا يحصلون عليه عندما كانت أسعار النفط مرتفعة.
أيضا، يجب ألا يتم استغفال المستهلكين بأنهم وحدهم المستفيدون من الخصخصة، بل إن المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال دائما ما يكونون أكبر المستفيدين منها وبفوارق هائلة عن عامة المستهلكين من أفراد الشعب.
في المقابل، للخصخصة سلبيات كثيرة عادة ما يتغاضى عنها المطالبون بها. من ضمن هذه السلبيات زيادة معدلات التضخم، وزيادة معدلات الفقر على المستوى الوطني، وتآكل وانعدام الطبقة الوسطى، وارتفاع معدلات اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية. بالنسبة لآخر سلبية، فآثارها ونتائجها المخيفة باتت مؤخرا موضوعا مؤرقا للاقتصاديين وعلماء السياسة، وأصبح بعضهم يراها كأحد أهم المخاطر التي تهدد العالم. وأود أن أذكر هنا أن مجلة فورين أفيرز (Foreign Affairs) خصصت إصدارها الأول لعام 2016 للحديث عن اللامساواة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
بالإضافة إلى كل هذه الآثار السلبية من ناحية اقتصادية، فقد تكون للخصخصة، في بعض الحالات، آثار سلبية على المستوى السياسي أيضا، وعلى رأسها انتهاك سيادة الدول من قبل رؤوس أموال أجنبية أو جهات خارجية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
وحتى لا تكون المقالة مجرد كلام بلا أدلة وشواهد، لا بد أن نذكر بعض الأمثلة على فشل الخصخصة وآثارها الكارثية. تعد تجربة دول أميركا اللاتينية مع الخصخصة وتطبيق سياسات (توافق واشنطن) النيوليبرالية في التسعينيات إحدى أهم التجارب الفاشلة اقتصاديا.
بشكل عام، تذكر أستاذة العلوم السياسية بجامعة نورث كارولاينا (إيفيلين هيوبر Evelyne Huber) في دراسة أجرتها على دول أميركا اللاتينية بأنه كلما زاد تطبيق النيوليبرالية الاقتصادية، والتي من ضمنها خصخصة القطاعات العامة، كلما ارتفعت معها معدلات الفقر واللامساواة الاقتصادية، وهذا ما حصل في جميع دول أميركا اللاتينية بين عام 1982 و1995.
ومن بين الأحداث الشهيرة في تلك الفترة مشروع خصخصة قطاع المياه في بوليفيا أواخر التسعينيات، والتي نتج عنها "زيادة في الأسعار"، مما أدى إلى اندلاع مظاهرات وأحداث شغب ومواجهات دموية بين أفراد الشعب وقوات الشرطة، انتهت أخيرا بإلغاء الحكومة البوليفية لقرار الخصخصة.
أيضا، فإن الأزمة التي تعيشها بعض دول الاتحاد الأوروبي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا شاهد آخر على كوارث الخصخصة وسياسات السوق والتحرر الاقتصادي. إذ إن أحد أهم أسباب الأزمة الأوروبية هو احتكار كبار مالكي رؤوس الأموال لكافة الشؤون السياسية والاقتصادية لتلك الدول وعدم اكتراثهم بمصالح الشعوب. وهذا مما يجعل شعوب تلك الدول ترى بأنها محكومة من قبل أقليات (النخب الاقتصادية).
وفي مقالة كتبها (هوك برانكهورست Hauke Brunkhorst) عن الأزمة الأوروبية الحالية، وهو أستاذ علم الاجتماع بالجامعة الأوروبية في فلينزبيرغ، يقول إن ما كانت تعد حكومات ديمقراطية سابقا، أصبحت اليوم في أيدي رجال الأعمال ومديري البنوك والتكنوقراط بشكل مباشر أو غير مباشر. فإن كانت هذه الدول التي سبقتنا في كافة المجالات تعاني من لعنات الخصخصة والاحتكار، فلكم أن تتخيلوا ما ستؤول إليه دولنا الغارقة في الفساد وغياب الرقابة والمحاسبة.
تعليقا على القرارات الأخيرة في السعودية، على سبيل المثال، كتب سليمان الغامدي في مقالته (خطة ماكينزي.. إلى أين سنذهب؟): "إن الإجراءات المتخذة وتفاعلاتها المتوقعة لها ثمن غامض، وخصوصا أن مجمل الإصلاحات المروج لها تأتي على أرضية تشوهات اقتصادية موروثة في أسواق الإنتاج والعمل والمال السعودي يمكن لها أن تزيد مخاطر اللاتأكد. إن رفع أسعار الطاقة وإقرار الفاتورة الضريبية وإزالة الحواجز عن الاستثمار الأجنبي ستؤدي من ناحية إلى سعار تضخمي سيستفيد منه الكبار بنسب ستتجاوز كثيراً الأثر الفعلي للتكلفة، وخصوصا إذا أخذنا في الاعتبار حالة احتكارات القلة التي يعاني منها القطاع الخاص المحلي أصلاً، كما ستؤدي هذه السياسات لضرر محقق للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة في ظل عدم تأهلها لمجاراة الحيتان المحلية والقادمة من خلف الحدود. هنا يثور التساؤل حول جاهزية الدولة لتمويل شبكات أمان اجتماعي، وبرامج لمراقبة دائمة للأسعار ومراقبة أثرها على الدخل وملاءة الأفراد المالية، والاستعداد للتدخل في الوقت وبالقدر المناسب".
قد لا تكون الخصخصة شرا مطلقا، لكن تطبيقها في ظل ظروف معينة قد يجرّنا نحو المهالك.
إن خصخصة القطاعات العامة قد تنقلنا بشكل مباشر من دول حكم الفرد الواحد أو الحزب الواحد إلى دول حكم رجال المال والأعمال. حينها ستكون السلطة بيد مجموعة من الجشعين والمنتفعين، وحينها قد نبتعد كثيرا عن الديمقراطية التي كنا وما زلنا نطالب بها. ويجب التذكير هنا بأن أكبر رؤوس الأموال في العديد من الدول العربية يملكها الأشخاص ذاتهم أو العوائل ذاتها التي تقف على رأس هرم السلطة وحاشيتهم والمقربون منهم، أي أن القوة ستبقى بيد ذات الأشخاص لكنها ستتحول من قوة مدعومة باسم الحزب أو العائلة إلى قوة باسم رؤوس الأموال.
أخيرا، نحن بحاجة للصدق والوضوح أكثر من أي وقت مضى، وأي محاولة للكذب على أنفسنا ولتضليل الرأي العام ستزيد الأمور سوءا. إن خصخصة القطاعات العامة لأي دولة يعد قرارا سياديا يمس مصالح شعبها، واتخاذه في ظل غياب رقابة ومحاسبة فاعلتين يشكل خطرا مستقبليا كبيرا وسيرا بالشعوب نحو المجهول.
لذا فإن أي مشاريع خصخصة وإصلاح اقتصادي في دولنا العربية يجب أن تسبقها أو تصحبها إصلاحات سياسية تمكّن الشعوب من تحديد مصائرها ومستقبلها. إن الإصلاح السياسي ودول الحقوق والمؤسسات ضرورة قصوى لابد أن تكون هي من تقود الإصلاح الاقتصادي حتى نضمن وجود قوانين واضحة وصريحة تطبّق على أصحاب كبار رؤوس الأموال والمستثمرين وغيرهم بشكل عادل ومتساوٍ.
فليس من المقبول ولا من الصواب أبدا أن نخاطر ونخصخص الاقتصاد ونفتح الباب أمام الاستثمارات الأجنبية في ظل دول يغيب عنها قضاء عادل، وتغيب عنها الرقابة والمحاسبة، وتغيب عنها أدنى مستويات الشفافية.
(السعودية)