مت أيها الجمهور

مت أيها الجمهور

17 ابريل 2014
+ الخط -

 

على مقاعد الفرجة "الافتراضية"، يجلس ملايين العرب من المحيط إلى الخليج، يراقبون إخواناً لهم قرّروا النزول إلى الميادين، ومواجهة آلة القمع والديكتاتورية، بصدورهم العارية، وبرغبتهم في تكريس الانتصار على غولٍ قديم، قتلوه، أَو هكذا تصوروا، ذات مقاربةٍ ثوريةٍ ربيعيةٍ، لكنه، الآن، ينهض، ويتجاوز أكتاف من أحيوه، تحت شعارات "التمرد الثوري"، و"تصحيح المسار"، و"التخلص من الفاشية الإسلامية".               .
ترى الغالبية المتفرجة الصراع الجاري، وتتفاعل معه، انطلاقاً من انطباعاتها المستوحاة من صورةٍ يفرزها، فهي، إذن، بين صورةٍ يسعى الحاكم المستبد إلى تصديرها إلى لاوعيهم، مختزلاً الثورة ضده في أَنها سلوكٌ فوضويٌّ مدمر للدولة واستقرارها، وناشرٌ للقتل واستباحة الأعراض و.... وصورةٍ ثانيةٍ تناضل لتكرس نفسها في وعي ملايين المواطنين الطيبين، وتحاول أَن تجعلهم ينزلون لدعم الثوار في ميادينهم، وليشكلوا معهم كثرةً يستحيل على أية إرادةٍ مستبدةٍ قاتلةٍ إفناءها.
وفي إطار ذلك الصراع، يمكننا أن نفهم، ونقارب، كيف يغدو صحافي هارب من أتون القمع، ومستغلاً فسحة حريةٍ في بيروت، إرهابياً يسعى النظام الحاكم حالياً في مصر إلى إسكاته، واستلامه لمحاكمته. ويمكننا، حينئذٍ، أن نفهم لماذا قاد وزير الخارجية المصري، نبيل فهمي، بنفسه مساعي "دبلوماسية"، جعلت لبنان يسلم مدير "قناة 25" مسعد البربري. إنه أمر ثقيل، بتعبير جاك دريدا، لكننا، بدلاً من أن نجترح الصمت على طريقته، علينا أَن نحاول أن نفهم، وندرك، أَن الحاكم، وهو يسعى إلى تكريس صورته تلك، لم يكتف بانقلابه على السلطة السياسية، بل يسعى إلى انقلابٍ آخر على المعاني الحقيقية للقيم والمفاهيم، وإعادة إنتاجها وتصديرها إلى ملايين المواطنين البسطاء. ويسعى، من كتم الأصوات المعارضة كل أشكال "انقلاباته" تلك، إلى إجبار "لا وعي" المتفرجين البسطاء على اعتماد صورته هو عن الثورة وعلاقتها الوثيقة بالفوضى والدمار. إنه سعي أكيد وصارخ تحت عنوان آمر هو: مت أيها الجمهور. مت حينما لا ترى سوى ما أُريك أنا، الحاكم. مت على مقعد فرجتك. وعش وأنت تفضل استقراراً على ثورةٍ محركة، لأن الثورة تعني الفوضى ومقدمة الخراب.

"
على المناضلين الثوار أن يضعوا مفهوماً خاصاً للثورة، يجعلها تجيب، هي الأخرى، على سؤالين: كيف يمكن أن نثور، ونطهّر بلادنا من الاستبداد والفساد، من دون أن نسقط هيبة دولنا وتماسكها؟ كيف لا نقع في الفوضى، ونحن نعبر عن لحظة انتصار حريتنا؟

"


يمكننا، في الإطار نفسه، أن نفهم لماذا تغدو قناةٌ فضائيةٌ إخباريةٌ "إرهابية" في نظر المستبد، ولماذا يُحتجز مراسلوها، ويبقون بعيداً في غياهب سجون الديكتاتور. ويمكننا قطعاً أن نفهم لماذا تغدو جمعيةٌ دعوية ثقافية، ومركز صحي، ومركز تعليمي، مؤسسات تنشر، كما يدّعي الحاكم في موريتانيا، "تأثيراً مفزعاً".
يريد الديكتاتور المنقلب على كل شيء أن يزيد بيننا أمثال محمود، وهو شاب موريتاني في الثلاثينات من عمره، يعمل بمحاذاة شارع الأمل (وهو أطول شارع في موريتانيا)، ويبدو ضحية مثالية لمن يغتالون الأمل، ويبدو حالةً نموذجية لكثيرين يفضلون الالتزام بموتهم، والحياة في فرجتها السلبية. كان عفوياً، وهو يحرك آلة الحلاقة، في أثناء قص شعري، ويقول في انفعال: هؤلاء ليسوا ثواراً، يدمرون بلدانهم، ألا ترى الفوضى وانهيار الدولة في سورية وليبيا. الاستقرار أهم من الحرية. ثم يحدّثني عن قريب له كان يعمل في ليبيا قبل الثورة، وعن ناسٍ كانوا يعيشون في رخاء ونعيم وبحبوحة، لكن الثورة دمرت ذلك كله، ولم تنجح في حماية بنيان الدولة، ولم تحافظ على شيء سوى مصالح الغرب.                  
منطق محمود العامل بيوميته، البسيط في تفكيره، لا صلة له بانتماءات أيديولوجية وأهداف براغماتية، وهو نفسه منطق آلاف المواطنين من بلده، ممن يرددون عند مشاهدتهم لاجئين سوريين متسولين في شوارع نواكشوط: يا للأسف...دمر السوريون وطنهم بثورتهم، ويتجرعون آلام ذلك في أتون الغربة والفاقة، ولو في بلد عربي ومسلم شقيق. ... لذلك كله، على الثوار المناضلين أن يعرفوا أن المدخل الحقيقي لصنع وتوطيد صورتهم المقاومة لاستلاب الحاكم، والتي تواجه "قتله" روح غالبية الشعب، هو أن يجيبوا، بشكل حاسم وواقعي، على إشكالية أثارها كرين برينتون في كتابه "تشكيل العقل الحديث"، والمختزلة في السؤال: هل ثار الناس في فرنسا أيام ثورتها طلباً لدستور مجيدٍ، وقيمٍ ساميةٍ، كالحرية والمساواة، أم من أَجل الخبز والعيش، وضد المكوس والضرائب المرتفعة، فقط؟ وعلى المناضلين الثوار أن يضعوا مفهوماً خاصاً للثورة، يجعلها تجيب، هي الأخرى، على سؤالين: كيف يمكن أن نثور، ونطهّر بلادنا من الاستبداد والفساد، من دون أن نسقط هيبة دولنا وتماسكها؟ كيف لا نقع في الفوضى، ونحن نعبر عن لحظة انتصار حريتنا؟    
أية مقاربة نظرية من ذلك النمط ستنجح في الوصول إلى الناس، وسترد على إجراءات النظام الحاكم، لقمع ومصادرة صورة الحقيقة وصوتها، وذلك كله يتطلب، وبسرعة، النزول من نخبوية مفهوم الثورة وآلياتها.        

 

 

 

4D8EB186-878A-4661-9143-F7EE55E566CB
الحبيب الشيخ محمد

كاتب موريتاني