ماذا تصنع إيران بحلفائها؟

ماذا تصنع إيران بحلفائها؟

28 مايو 2015
+ الخط -

"حزب الله في غزة"! هكذا سمى موقعٌ تابعٌ لحزب الله حركة الصابرين، حديثة النشأة في غزة بفلسطين، خالعًا عليها وصف مقاوم! الكلمة السحرية التي تمنح صاحبها كلّ معاني العصمة والقداسة، ولا يملكُ منحها إلا آلهة المقاومة المعتمدون لدى المحور المعروف، مع التأكيد على نفي علاقته بحزب الله، فضلًا عن تهمة التمذهب بمذهب الشيعة الإمامية!

لم يتحدّث أحدٌ بصراحةٍ ووضوح عن نظرة نظام "الثورة الإسلامية" في إيران إلى بلاد المسلمين وقضاياهم مثلما تحدّث حسن نصر الله في تسجيله الشهير (بالأبيض والأسود) أيام شبابه، كان الرجل مباشرًا جدًا وبسيطًا! فالمسلمون أمة واحدة مسؤولٌ عنها بالكلية أمام الله والأئمة قداسة الولي الفقيه النائب بالحق عن صاحب الزمان! سئل يومها نصر الله: "من أعلم بقضايا لبنان؟ العلماء المجتهدون أم قيادة الثورة؟ فأجاب: الإمام الخميني!!" سئل أيضًا: "من يعين حكام البلاد الإسلامية؟ فلم يجب: شعوبها، بل: "الإمام الخميني"!!

هكذا ترى إيرانُ نفسها، ولا ترى أحدًا يليقُ بدعمها اللامحدود إلا مثل "سماحة السيد" في عنفوان شبابه، وأوج تحمسه! ولا يبدو أنها دعمت أحدًا دون هذا السقف إلا مضطرةً أو كارهة وبعد حساب غير يسير! ولذلك سعت منذ البداية إلى التمدد المذهبيّ في البلاد الإسلامية، بضمّ عناصر من الشيعة الإمامية إلى حظيرة ولاية الفقيه، أو تحويل الآخرين إلى المذهب الإمامي، تمهيدًا لضمهم، مثلما حصل مع الحوثيين (الزيدية)، ومع قليلٍ من أفراد السنة في العالم الإسلاميّ.

في فلسطين، تبدو الأمور معقدةً قليلًا، ثمة الجهاد الإسلاميّ، الحركة الناشئة في أواخر السبعينيات، بقائدها الشابّ الثائر المثقف والمتحمّس فتحي الشقاقي رحمه الله، ومجموعة الشباب الذي لم يجد نهمه الثوريّ في الجماعة الأم (الإخوان المسلمون)، والمتبنية لخطابٍ أكثر تحمسًا وثوريةً، وقُربًا من إيران آنذاك. وهناك حماس، وريثة الجماعة الأم، وممثلتُها "الشرعية" إن صح التعبير، والتي يتنازعها انتماؤها للإخوان المسلمين، وأهواءُ كوادرها الشابّة التي درس كثيرٌ منها العلوم الشرعية في الجامعات السعودية، فاصطبغت الحركة بطابعٍ سلفيّ، ولكن إلى حدّ غير كبير بسبب جذورها الإخوانية. اتخذت إيرانُ الإسلامية، موقفًا تاريخيًا من القضية الفلسطينية، وقررت دعم توجه مقاومة المحتلّ والجهاد ضدّه، ولكن هذا لا يعني استثناءها من النظرة العامة لقيادة الثورة، والتي صُدّرت بها المقالة، بمحاولة إيجاد موطئ قدم، لمشروع الوليّ الفقيه في فلسطين، وهذا لا يتأتى بمجرد الدعم لما هو موجود، بل الأمر محتاجٌ لمن يحملُ الفكرة عن قناعة ورضا، لا من يأخذ الدعم دون شروط.


كانت حماسُ بانتمائها التنظيمي الواضح، ونزعتها السلفية، هدفًا بعيد المنال! وباءت أكثر محاولات إيران جرّها إلى مربّع التأثر الأيدولوجيّ بالفشل، بينما طمعت إيرانُ في حركة الجهاد، لا سيّما مع التأثر الواضح الذي كان يُبديه الشهيد المؤسس فتحي الشقاقي رحمه الله بالخميني وأفكاره، وبدأت تظهرُ تأثرات واضحة لشبابٍ من الحركة بأدبيات الثورة الإسلامية، وصرتَ ترى مكتوبًا على صور بعض الشهداء في فلسطين: "الكربلائيّ العنيد"، وأشباهها من العبارات التي كانت برغم رمزيتها العظيمة غريبةً على المجتمع الفلسطيني، وحصريةً لدى بعض أفراد حركة الجهاد الإسلامي!

لكن حركة الجهاد، في خطها الرسميّ على الأقل، حافظت زمن الشهيد الشقاقيّ على استقلالها المذهبيّ، وتوقّفت عند حدود التأثر الأدبيّ، ثم بعد تولّي الأمين العامّ الجديد رمضان عبدالله شلح، ازدادت مظاهرُ الاستقلال، وحافظ الرجل بحنكة على الحركة من الوقوع في التبعيّة، أو استعمالها مطيّة للمطامح المذهبية، واحترمت إيرانُ ذلك ظاهرًا، تمامًا مثلما أظهرت ذلك لحماس!

لكن إيران في حقيقة الأمر كانت تُعطي بيد، وتعبثُ بأخرى، وتحترمُ ظاهرًا، وتجتهد عكس ذلك باطنًا، وكانت الحركتان الفلسطينيتان المدعومتان منها (حماس والجهاد) حذرتين أيضًا، لكن حماس ببنيتها التنظيمية الأقوى، كانت عصيّةً على العبث الإيرانيّ إلى حد كبير، بل ورفضت مساعدات إنسانية غاية في الأهمية قدّمت على طبقٍ ملغوم، مثل: مستشفى باسم "الإمام الخميني"، وهذه عادةٌ إيرانية معروفة، بتسمية الجمعيات والأنشطة الإنسانية بأسماء ذات خلفية شيعية، مثل: "آل البيت"، أو "الغدير"، أو "إمداد الخميني"! كما لاحقت حماسُ خلال وجودها في الحكم كل المحاولات لإنشاء مراكز "المستبصرين" في غزة.

أما الجهاد، فإنها وإن حافظت على التماسك رسميًا، فقد خرج من عباءتها مجموعةٌ من الكوادر، شكّلت فيما بعدُ ما أعلن عنه باسم حركة الصابرين، وهي في حقيقة الأمر مجموعةٌ صغيرة لا تتعدّى أفرادًا معدودين، معروفين بارتباطهم الماليّ بإيران، ولم تُمارس منذ انفصال أفرادها عن الجهاد، عملًا عسكريًا واحدًا ضد الصهاينة، وليس لها بيانٌ واحدٌ يذكر شيئًا من ذلك، رغم خروج بيانها الأول قبيل الحرب الصهيونية الأخيرة على غزة بوقتٍ قصير.

منذ اندلاع الثورة السورية، تدهورت العلاقة بين إيران وحماس، تعرّضت حماسُ لضغطٍ رهيب من جهتين: إيران: الداعم الأكبرُ، والحليف المهم، الداعم بالمال والسلاح! والأمة؛ العمق الاستراتيجيّ للحركة، وامتدادها الكبير، العاجزُ في الوقت ذاته عن توفير البديل!

كانت حماسُ بحجمها الكبير، وعظم موقفها في أعين الأمة، محطّ الضغط الأكبر، من الجهتين كما سلف، بينما حظيت الجهاد بهامش مناورة وتمسك بالحياد أكبر بكثير! حاولت حماسُ الالتزام بالحياد بادئ الأمر، وهو موقفٌ جيدٌ منها، إذ تأييد الثورة القائمة على نظامٍ يؤويها وإن كان خطوةً حقانيّة، فإن تجنيب فلسطين مغبة الصراعات الدائرة في الوطن العربي، والمتسعة شيئًا فشيئًا، خيرٌ للقضية وآمنُ عليها، فضلًا عن أن التأييد السريع للثورة سيكون مثارَ توجّسٍ منها لدى أي نظام تحتاج أن يحتضنها من جديد، حتى وإن أسعده موقفها من نظام الأسد في وقته! ولم يكن موقفها سيئًا أخلاقيًا آنذاك، إذ تخليها عن دعم الأسد، وهي بين فكّيه، والوقوف على الحياد في معركة حليفك الوجوديّة، هي انحيازٌ لخصومه في حقيقة الأمر!


أسفر الضغطُ على حماس، وكان أشدّ وأكثر إيلامًا من طرف النظام السوريّ،، وتخييرُها، غير الصريح، بينه وبين الشعب، إلى انحياز حماس للشعب، واتخاذها الموقف الأخلاقي والتاريخي الأعظم، وترك مكاسبها ومزاياها في سوريّة، والتي لا تعويض لها بحال، إلا عند الله عزّ وجل! واستطاعت حركة الجهاد بحكم الضغط الأخفّ الحفاظ على حيادها، وكانت إيران معنيةً بالحفاظ عليها لتبقى بديلًا لحماس، وورقةً أخيرةً من أوراق التأثير على الساحة الفلسطينية، واستفادت كثيرًا من الانحياز الإيراني لها على حساب حماس في تلك الفترة!

واستفادت إيرانُ بدورها من حركة الجهاد في المزايدة على حماس، والتساؤل الدائم عن سر انحياز حماس للثورة السورية، وحفاظ الجهاد على حياده، وبقاء العلاقة معه رغم ذلك، وأن إيران لم تضغط على حماس أدنى ضغط، ولم تربط الدعم بالموقف، ولم ولم!

ونال حماس من العقوبات الإيرانية الخفية ما نالها آنذاك، من إيقاف الدعم المادّي، ومحاولة إيثار الجهاد بالدعم النوعيّ، بل وامتدّ الأمر إلى دعم تنظيمات صغيرة ذات خلفية سلفية جهادية (معادية أيدولوجيًا لإيران والشيعة عمومًا) من أجل الاستفادة منها في خلط الأوراق على حماس، وتخريب المشهد بأكمله متى شاءت!

حديثًا، ومع اندلاع الحرب في اليمن، حاولت إيرانُ قبل استفحال الأمر توريط الجهاد بموقفٍ هناك، من خلال بعض الصور لقادةٍ فيها مع الحوثيين، ثم بُعيد "عاصفة الحزم"، طلبت إيرانُ موقفًا واضحًا من الجهاد في إدانتها، والاصطفاف إلى جانب الحوثيين فيها وفق ما نشرته صحيفة القدس الفلسطينية، بل واستخفّ بها شعور السيطرة والتحكم حتى أذاعت إذاعةٌ إيرانيةٌ موقفًا قويًا للجهاد ترفض فيه الحركة عاصفة الحزم صراحة!

وهذه طريقةٌ إيرانية معتمدة لديها في توريط حلفائها بالمواقف والتصريحات! لكن قيادة الجهاد، في خطوة مفاجئة، سارعت إلى نفي التصريح، ومن ثمَّ اتخذت موقفًا تاريخيًا صلبًا، بالتزام الحياد الكامل! وهو موقفٌ تحسدُ عليه حقًا!

ومذّاك يبدو أن حركة الجهاد صارت في موقع حماس إبان الخلاف على الموقف من الثورة السوريّة، ولعبت حركة الصابرين (الخارجة من عباءة الجهاد أصلًا) دور الجهاد آنذاك، ولكن بانتهازيّة تنزّهت عنها الجهاد إلى حد كبير، بأصالتها ووفائها لتاريخ علاقتها مع حماس!

لا زالت الأمور غير واضحةٍ، وقد تنقلبُ الحالُ في أيّ لحظة، لا نعلمُ إلى أي حدٍ ستتخلّى إيرانُ عن الجهاد، واستبدالها بحركة الصابرين، المفضّلة لديها (تثار حول مؤسسها تهم العمل على نشر التشيع)، ولا ندري كم ستستطيعُ حركة الجهاد بدورها المغامرة بعلاقتها مع إيران أيضًا، وقد أجري حوارٌ حديثٌ جدًا مع القياديّ بالجهاد، خالد البطش، فأجاب عن كل أسئلته بانشراح وتبسّط، إلا ما تعلّق بقضية العقوبات الإيرانية المالية على الجهاد، أو الموقف من حركة الصابرين، فقد التزم القياديّ الصمت إزاء هذين السؤالين، إيثارًا على ما يبدو لإبقاء الفرصة قائمةً لإصلاح الأمر، وبذلك تظل كل الاحتمالات مفتوحةٌ للإجابة عليهما، والله أعلم.

(فلسطين)

المساهمون