مأزق عجز القوة وقوة العجز

مأزق عجز القوة وقوة العجز

09 يوليو 2015
+ الخط -
تسود المنطقة العربية، وتحديداً ما يمكن تسميته قلب العالم العربي، حالة من الاحتراب الداخلي، فلا هي حالة حرب تقليدية بين الجيوش الوطنية وجيوش أجنبية معادية، ولا هي حالة خروج على القوانين بالعنف، وتصدي أجهزة الأمن الداخلي للجماعات الخارجة على القانون؟ ولكن، حالة صدام عسكري أحد طرفيه قوات مسلحة نظامية، والطرف الآخر تنظيمات شبه عسكرية تحمل عناوين متعددة ومختلفة، يجمع بينها ادعاء بأنها ترفع لواء الجهاد، من أجل رفع راية الإسلام، ويجمع بينها كلها أنها جماعات جهادية، تعمل من خلال تنظيمات شبه عسكرية، وتمتلك قدرات وإمكانات قتالية حديثة ومتطورة، وتناسب طبيعة حروب العصابات التي تمارسها.
إذن، نحن أمام حالة احتراب بين جيوش نظامية، ذات إعداد وتجهيز وتسليح وتدريب رفيع المستوى وتنظيمات شبه عسكرية ذات إمكانات نوعية عالية نسبية، على الرغم من أنها كيانات غير ملموسة بشكل واضح، والقتال يقع على مسارح داخلية، عبر عمليات ذات طبيعة غير تناسقية. والقوة، بمعاييرها المتعارف عليها، تمتلكها الجيوش النظامية التي تتعرض لتحدي مواجهة التهديدات الإرهابية/ غير المتناسقة.

لا شك في أن الحالة الأكثر وضوحاً، والتي كشفت عن المعنى الحقيقي لضعف القوة وقوة الضعف، كانت في الحرب الأميركية على العراق، حيث تمكنت القوة العسكرية الأميركية من اجتياح كل دفاعات الجيش العراقي النظامي، واحتلال العراق في عمليات استمرت قرابة عشرين يوماً! حدث هذا في إطار حرب تناسقية بين جيوش نظامية. ولم تتجاوز خسائر القوات الأميركية، خلال عملية الغزو، بضع عشرات من صغار الضباط والجنود. ولكن، ما إن بدأت عمليات الجماعات شبه العسكرية المتعددة، والتي حملت شعارات مقاومة الاحتلال الأميركي، حتى بدأ نزيف الخسائر الأميركية، والذي اقترب من خمسة آلاف قتيل. وانتهى الأمر بانسحاب بري أميركي من العراق، بل وبقرار أميركي بعدم التدخل البري في مواجهة مثل تلك الجماعات، تحت أي ظرف.
ولعل تجربة العراق انعكست على الحالة السعودية، وإن كانت مختلفة في طبيعتها، لأن المواجهة هنا ليست ضد تهديدات داخلية، ولا على الأرض السعودية، لكنها ضد تنظيماتٍ تمكنت من تكوين تحالفات كبرى، والاستيلاء على السلطة في بلد بأكمله، هو اليمن.
الجيش السعودي من أقوى جيوش المنطقة، ويمتلك ترسانة من أحدث أسلحة القتال الأميركية، خصوصاً القوات الجوية، والتي اختار أن تكون قوته الضاربة في مواجهة مليشيات الحوثي وتحالفاتها في اليمن. وبالفعل، وفي إطار تحالف خليجي عربي، مثلت فيه القوة الجوية السعودية رأس الحربة، بدأت عمليات جوية شاملة دخلت شهرها الخامس، كبّدت مليشيات الحوثي وتحالفاتها خسائر فادحة، وأحكمت عليها الحصار البري والجوي والبحري، وما زالت العمليات مستمرة. ولكن، لا يبدو في الأفق القريب أي احتمال لحسم المعركة، في ظل استمرار سيطرة المليشيا الحوثية على الأرض، وعدم تمكين قوات التحالف، بقيادة السعودية، من الاستيلاء على مجرد موطئ قدم على الأرض اليمنية.
تلك هي الحالة السعودية، قوة عسكرية فائقة، تفرض حصاراً جوياً وبحرياً كاملاً، وتملك السيادة الجوية على مسرح العمليات بامتداد اليمن، في مواجهة تنظيمات شبه عسكرية في الغالب، في إطار جماعة ذات طابع أيديولوجي ديني، هي جماعة أنصار الله الحوثيين، بروافدها الفكرية المحلية المستمدة من الزيدية، وروافدها الخارجية الوافدة من الشيعة الإيرانية.
إذا انتقلنا إلى الحالة السورية، ولعلها حالة تستحق وقفة خاصة، لأن الجيش السوري كان يعد من أقوى الجيوش العربية تسليحاً، وتنظيماً، وتدريباً، على أحدث النظم الروسية، وكان يمثل عماد الدولة وركيزتها الأساسية. ولكن، ما إن هبت رياح الربيع العربي على سورية، حتى بادر النظام، ومن دون تروٍّ، إلى الزج بالجيش للتعامل مع المتظاهرين السلميين بالنيران مباشرة، وتطورت الأحداث بسرعة، وكان لطبيعة التركيبة السكانية، والعوامل الطائفية، والعرقية، تأثيرات حادة على الموقف، بالإضافة إلى الموقف الإقليمي، فسرعان ما تشكلت التنظيمات شبه العسكرية، والمليشيات المسلحة، والتي بدأت بالجيش الحر، ثم تطور الأمر إلى مليشيات ذات طابع جهادي متطرف تنتمي إلى فكر القاعدة، مثل جبهة النصرة، وتعددت التنظيمات، والمليشيات المسلحة، وأبرزها تنظيم داعش. عشرات التنظيمات غطت الساحة السورية، ووجد الجيش نفسه في مواجهتها في اتجاهات مختلفة، وعلى محاور متعددة، وكلها تتمتع بظهير شعبي فى مناطق نشاطها، فتشتت الجيش، وتوزعت قواته، وانهار بنيانه التنظيمي المركزي، ولم يبق منه سوى خاصة القوات والوحدات في العاصمة والساحل، وهي المناطق الباقية تحت سيطرة النظام.

هذا عن الحالة السورية، قوة عسكرية ذات قدرات قتالية عالية، تم زجها في مواجهات متفرقة، في الريف والحضر السوري، فراحت المليشيات تلتهمها قضمة قضمة، حتى انتهى بها الأمر إلى ما هي عليه الآن.
وفي عودة إلى الحالة العراقية، ذات الخصوصية، فالجيش العراقي المعني هو ذلك الجيش الذي تشكل في ظل الهيمنة الأميركية على العراق، وفي ظل حكومات ذات طابع طائفي شيعي بامتياز، نجده يقف عاجزاً في مواجهة مليشيات داعش التي أعلنت قيام الدولة الإسلامية.
ومصر أيضا لم تكن في منأى عن هذه الحالات، وهي التي تملك أقوى الجيوش العربية، وأكثرها قدرة وخبرة عسكرية، وتتمتع بتجانس اجتماعي كبير نسبياً، على الرغم من تعرض المجتمع لحالة الاستقطاب الشديد غير المسبوقة، وعلى الرغم من تعرض مصر لموجات سابقة من الإرهاب على يد جماعات جهادية وتكفيرية، وحاليا تتعرض لحالة مختلفة، فهي تواجه جماعة مسلحة نوعية، بمعنى أنه تنظيم يغلب عليه الطابع البدوي السيناوي، تمكن من توفير ملاذات آمنة في منطقة شديدة الحساسية في شمال سيناء، ورفع شعارات جهادية، واتخذ اسم أنصار بيت المقدس، ثم أعلن التنظيم البيعة لزعيم داعش، وغير اسمه إلى ولاية سيناء..! هذا التنظيم يركز عملياته، مستهدفا نقاط ارتكاز وكمائن القوات المسلحة ومعسكراتها وعناصر الأمن، في إغارات خاطفة، تلوذ بعدها عناصره بالفرار إلى مكامنها، وعلى الرغم مما يتعرض له التنظيم من خسائر كبيرة على مدى عامين، إلا أنه يعود بعد فترة لتكرار عملياته، والتي بقيت محصورة في نطاق جغرافي محدود.
لم تتمكن القوة العسكرية، مهما كانت فائقة، من تحقيق النصر الحاسم على التنظيمات شبه العسكرية، وهو ما يمكن اعتباره مجازاً ضعف القوة، كما أن التنظيمات شبه العسكرية، أو المليشيات المسلحة، مهما كانت ضعيفة، إلا أنها قادرة على إزعاج القوة العسكرية المتفوقة، وإيقاع الخسائر بها، وهو أيضا ما يمكن اعتباره مجازاً قوة الضعف.
وما بين ضعف القوة وقوة الضعف يتم افتقاد القدرة على الحسم عسكرياً، وتبقى حالة الاضطراب والقلق هي السائدة على المجتمعات، وهو مأزق بالغ الخطورة، يدفعنا إلى ضرورة إعادة التفكير في الأمر بجدية، ووضع رؤية أمنية، سياسية، تنموية شاملة، للتعامل مع تلك الحالات، لأن السلاح وحده لم يغير فكراً، ولم يبدل عقيدةً.


2FABA6BB-F989-4199-859B-0E524E7841C7
عادل سليمان

كاتب وباحث أكاديمي مصري في الشؤون الاستراتيچية والنظم العسكرية. لواء ركن متقاعد، رئيس منتدى الحوار الاستراتيجى لدراسات الدفاع والعلاقات المدنية - العسكرية.