لهم عنبهم.. ولنا حصرمنا

22 نوفمبر 2016
+ الخط -
على خلاف المثل الذي اخترعناه، كان آباؤنا في أميركا يأكلون العنب ويضرسونه وحدهم، في انتخاباتهم التي استنفدت وقتنا العربي الضائع، وتركوا لنا الحصرم، لنأكله ونضرسه وحدنا، نحن وآباؤنا الصغار معًا.
وبعد أن أنهينا جولات الضرس المرّ، آن لنا أن نعود إلى قواعدنا سالمين، فقد أدّينا مهمة الانتخاب بنجاح، بصرف النظر عمن فاز ومن أخفق؛ لأننا ديمقراطيون حدّ الخديعة، وعلينا أن نقبل بما قرّره صندوق الاقتراع الأميركي وحده.
كانت أشهراً درامية، لم يغمض لنا فيها جفن، نحن العرب الديمقراطيين، غير ثلثٍ واحد من الليل البهيم، فيما كان علينا أن نقضي الشطر الثاني، بـ"ضرس" التوقعات، ومتابعة إحصاءات مراكز الأبحاث بشأن فرص فوز مرشحنا، أو مرشحتنا، في الانتخابات، وتمحيص أساليب التحشيد المقترحة لدعمه، أو لدعمها، فيما خصصنا الثلث الأخير من الليل للدعاء على المرشح الآخر بالإخفاق والجلطة أو الشلل النصفي قبل موعد الانتخابات، وهي دعواتٌ ديمقراطية، بالطبع، ولا تتعارض مع إيماننا المطلق بحقّ كل طرف أن يلعن الطرف الآخر.
كنا نشعر بحريةٍ مفرطة، تكفل لنا توزيع فائضها على بقية دول العالم الثالث، فتغمرها كلها. ورأينا في حلبة التنافس بين دونالد ترامب وهيلاري كلينتون، متنفساً لهذا الفائض الخانق من الديمقراطية، فحجزنا تذاكر يومية، لمشاهدة جولات المباراة على مدار اللحظة، ولم نتوّرع عن ارتداء قفازات الملاكمة، على سبيل المحاكاة، ورحنا نطوّح بقبضاتنا في الهواء، مع كل لكمة يوجّهها منافسنا أو منافستنا إلى وجه الخصم، أملاً بحصد مزيدٍ من النقاط التي تؤهلنا لإطاحته بالضربة القاضية، مع التذكير بأننا كنا نتوزّع على قسمين في الحلبة، قسم مع ترامب، وآخر مع هيلاري، من دون أن يتحول التنافس الشريف إلى صراع دموي، لأننا مؤمنون بالديمقراطية، كما أسلفت، ونمارسها "على أصولها".
وكان مما يزيدنا ثقةً بديمقراطيتنا أن طغاتنا انخرطوا معنا في حمى التنافس والأمل، فكان كل حاكم عربي يشاركنا سهر الليالي، ويرافقنا إلى حلبات المناظرات و"اللكمات" بين المتنافسين، يصفقون لهذا، ويشتمون تلك، أو العكس بالطبع. وينظرون بتجبيلٍ مهيب إلى صناديق الاقتراع، يقرأون عليها سور "المعوذات"، ويحصّنونها بتمائم الرجاء، ولكل منهم مرشحه، فكان عبد الفتاح السيسي، مثلاً، يرغب بفوز ترامب، نظرًا للتماثل "البهلواني" بينهما، ويشاركه بشار الأسد في هذه الأمنيات، لأنه رأى فيه طاغيةً محتملاً في مساعدته على الإجهاز على ما تبقى من شعبه. وكان آخرون يراهنون على هيلاري، من باب الحفاظ على عروشهم المهتزة... لكن، من دون أن يفسد هذا الخلاف "ودّ القمع" القائم بين الطغاة، على اختلاف سياطهم.
الواقع، وحّدتنا الانتخابات الأميركية على الحرية والديمقراطية والتنافس الشريف، وأصبحنا بغتة لا نصدح بغير مفرداتهما، ونسينا، في حمأة هذا الإحساس الصاخب، أننا لم نغادر قبور الاستبداد بعد، وبأن صناديق اقتراعنا نسجت العناكب على فرجاتها ألف خيط وخيط، وأن لا شي مفتوح في بلادنا غير فوّهات المدافع وأبواب الزنازين، وأن التنافس لم يغادر بعد حلبات الفساد.
والغريب، أنه، مع بدء نبش صناديق الاقتراع الأميركية، رحنا نتحلق حول الصناديق بقلق ننتظر نتائج "ديمقراطية"، نعتقد أنها ديمقراطيتنا، وصناديق نجزم أنها صناديقنا، ثم رقص نصفنا ابتهاجاً، وبكى نصفنا الآخر أسىً، وقفلنا عائدين إلى بيوتنا، بعد أن مارسنا حرياتنا إلى أقصى سماء متاحة لها.
على هذا المنوال، بتنا نعتاش على الديمقراطية، من صناديق الآخرين، ومن أحزابهم وبرلماناتهم، وحملاتهم الانتخابية، كمن يتحمّس للفرق الرياضية الأجنبية كأنها فرق حاراته، بعد أن نفض يديه من فرق بلده كلها، أو كمن يتابع لقاءات المصارعة الحرة، ويتقمّص جسد مصارعه المفضل، ويفوّضه باللكم والضرب، ثم يقفز عن مقعده بجنون، إذا قيّض له أن يطيح الخصم، بيد بطله، ويشعر عندها أنه هو الفائز، لا البطل نفسه.
أما "البطل"، فليس يعنيه من أمر "المتفرّج" شيء، وربما لا يتفضّل على جمهوره، ولا حتى بتلويحةٍ، من بعيد، خصوصاً إذا كان هذا "البطل" رئيساً أميركيًا منتخبًا، ومتابعوه جمهوراً عربياً، لم يعد يرى حريته إلا في صناديق الآخرين.. وفي النهاية، هم أكلوا عنب الديمقراطية، ونحن لم نزل نضرس حصرم الاستبداد.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.