لنفترض أنّ نتنياهو كان صادقاً

08 مارس 2015

من المخزي ألا يناقشه الأميركيون بالمنطق (Getty)

+ الخط -

في خطابه أمام الكونغرس، الأسبوع الماضي، قدّم بنيامين نتنياهو رؤية ملفّقة، على قاعدة ما يتأسس في أذهان أعضاء الهيئة التشريعية والدستورية الأولى في أميركا، من افتراض أن إسرائيل ما زالت في خطر، وأنها تعيش حياتها بين عادية ومعتدى عليها، وأن قلقاً وجودياً يلازمها. ولنفترض أن هؤلاء صائبون في افتراضهم، وأن نتنياهو صادق، فكيف يبتلع الأولون مسرحية الثاني، دونما تمحيص علمي، إن كان التمحيص السياسي ودراسة الواقع والتاريخ المعاصر مستغلقة عليهم؟

فأي خطر هذا الذي يمكن أن يتأتى من سلاح نووي إيراني مفترض؟ وكيف سيقع الهجوم النووي في حال امتلاك إيران هذا السلاح؟

فإن كان حجر الأساس لراوية التبرير الإسرائيلي المديد، للاستنكاف عن إنهاء الاحتلال العسكري الأخير في العالم، وتعليق مصير شعب آخر مستلبة أرضه التاريخية، أنَّ المسافة بين غربي الضفة الجبلي والساحل أو الوسط في إسرائيل، لا تزيد عن بضعة كيلومترات، وأن المدن الإسرائيلية يطالها مدفع هاون صغير لو أطلقت قذيفة من الجبل، فلماذا يختلف الحديث في سياق مزاعم النووي، ويكون التغاضي عن واقع وجود الفلسطينيين ضمن حدود إسرائيل التي قامت على أرضهم المنتهبة، وعن واقع القرب بين مواضع الفلسطينيين في القرب الجغرافي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فضلاً عن التساكن بينهم في المدن المختلطة؟ أم أن افتراض امتلاك إيران السلاح النووي يترافق مع افتراض أن إيران هذه، نفسها، ستقتل خمسة ملايين فلسطيني من أجل القضاء على مثيل عددهم من الإسرائيليين؟ ولماذا تضطر إيران النووية، افتراضاً، إلى هذه المجزرة غير المسبوقة، وهي لن تصبح بعدها في منأى عن الدمار، إن كانت هي لا تشن حرباً على إسرائيل، وإسرائيل لا تشن حرباً عليها؟

فإن كنا سنلاحق العيّار الى باب الدار، فهل يمكن لأعضاء الكونغرس أن يتغاضوا عن المعطيات المعلومة حول الفعل التدميري للقنابل النووية، وتأثيراتها الحرارية والإشعاعية، وضغطها المرتفع الذي يسبب الاهتزاز في دائرة جغرافية واسعة، وحركة الغازات الدائرية، بل وتأثيرها المدمر على أنسجة جسم الإنسان الذي يقطع الاتصال بين العضلات والعظام، والتسبب في إصابة الناس، في محيط أوسع وأبعد، بتمزقات في الأمعاء وفي أعضاء السمع والبصر؟ وإن تغاضى هؤلاء عن ذلك كله، وصدقوا نتنياهو بينما هو يكذب كعادته، هل سألوا أنفسهم أية قضية تكون إيران قد ناصرتها عندما تقتل أهلها، وتحكم عليهم بموت مجاور تريده لغيرهم؟

كأن هذه السيناريوهات السوداء التي يختلقها نتنياهو، تهرّباً من كل منطق سوي، يتعلق بالتسوية وبالممارسات، تريد إقناع الأميركيين بأن الخطر الأعظم أدعى إلى التغاضي عن سياسات إسرائيلية تتسم بالعناد والبذاءة، ولم تتردد في إهانة الرئاسة الأميركية نفسها، وتستهتر بالإرادة الدولية ومؤسساتها وساستها ووسطائها، وبكل الضمير الإنساني في كل القارات.

هذا الكذوب يتحدث عن قنبلة إيرانية نووية. فإن كان هناك فعلاً ألف قنبلة جاهزة أو مئة ألف يتوقع أن تنتجها إيران، فلماذا تتعطل السياسات السلمية التي جعلت كل القنابل النووية تظل في مخابئها في أميركا وروسيا وبريطانيا وفرنسا والصين والهند وباكستان؟ فإسرائيل وحدها المرشحة لأن تستخدم السلاح النووي، إن لم يوفر لها السلاح التقليدي ما تريد، وهو يوفره لها. وقد مرت سنوات كانت تشن فيها الحروب وتشعل المنطقة، من دون أن يستخدم ضدها أصدقاء العرب، الروس والصينيون والكوريون والهنود والباكستانيون، أي سلاح نووي. فلماذا إيران هي التي ستضرب بالنووي، وهي خارج المواجهة العسكرية مع إسرائيل أصلاً، حتى وإن اعتمدت خطاباً معادياً لها، وساندت مقاومة شعوب مظلومة لتعزيز صدقية خطابها؟

في خطابه المسرحي أمام الكونغرس، كان نتنياهو يتوخى حزمة فوائد، معتمداً على أن أعضاء الكونغرس لا يختبرون صدقية ما ينضح به، ولا يدققون ولا يراجعون. يريد، أولاً، وقبل الانتخابات في هذا الشهر، تنصيب نفسه علامة فارقة في تاريخ إسرائيل، وملكاً من ملوكها. ويريد، ثانياً، التغطية على سياسات في أقصى القبح وتستفز العالم كله، مستخدماً ملهاة إيران وسلاحها النووي المفترض. ويريد، ثالثاً، أن يوهم الأميركيين بأنه يتفلّت على إيران، وإنه على وشك أن يضربها استباقياً، لكي يسترضونه بمزيد من الدعم الذي يغطي على عورات سياساته الاقتصادية المُغدقة على المستوطنين، والحصول على مقدرات مالية جديدة، مع إرضاء الجيش بمزيد من السلاح المتطور.

وبخلاف أن إيران لم تنتج سلاحاً نووياً، وأن الدول الـ5 زائد 1 ليست غبية، ولا تحتاج إلى نتنياهو لكي يعلّمها كيف تتفق أو تختلف، وكيف تحافظ على أمن إسرائيل، هناك عامل أن إيران نفسها ليست من الجنون لكي تقامر بمصيرها وبمصير شعبها وبالفلسطينيين، بينما هي حاضنة النظام السوري وراعيته، أنموذج الصبر على الأذى الإسرائيلي، والاكتفاء بتوعّد تل أبيب كذباً، وهو صبر لم يتكرّم به نظام سورية على شعبه الذي لم يؤذه عندما طالب بالحرية والعدالة؟

لنفترض أن نتنياهو كان صادقاً، ولا يقدم مسرحية ذات حبكة زائفة من تأليفه، فمن المخزي ألا يناقشه الأميركيون بالمنطق، لكن الحقيقة أن كونغرس الأميركيين بلا منطق. إنه كونغرس الهواجس والمواقف الغريزية. فلو أن واحداً من أعضاء الكونغرس سأل نتنياهو، بحُسن نية: قلتم لنا إنكم لا تنسحبون من الضفة لقربها من تجمعاتكم السكنية، فهل نفهم، مثلاً، أن الخطر النووي الإيراني يطال الفلسطينيين مثلما يطالكم؟

المحتلون، بالطبع، لا ينسحبون من الضفة، ولا ينهون احتلالهم، لأسباب أخرى ضمن منهج التوسّع والنزعة الإمبريالية العنصرية. ذلك على الرغم من أنهم يعلمون أن لا خطر نووياً إيرانياً، وأن ساحة السياسة الراشدة أوسع من قاعة الكونغرس، وأن حبل الكذب قصير.