لعبة الإصلاح

14 نوفمبر 2014

تظاهرة ضد العولمة في فرانكفورت (31مايو/2013/أ.ف.ب)

+ الخط -

"ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض"

يُستخدم مصطلح اللعبة في الثقافة العالمية بمعنى تنظيم التنافس، أو التدافع، أو الصراع لأجل الوصول إلى نتائج تتقبلها أو تتحملها أطراف اللعبة. وهنا في الحديث عن الإصلاح، اللعبة هي تنظيم أو محاولة التنظيم السلمي للصراع بين الطبقات. ففي النهاية، هناك كاسبون وخاسرون. وفي لعبة الإصلاح هناك طبقة تحل محل طبقة أخرى. هذا ما تفهمه بوضوح النخب المهيمنة في عالمنا العربي، ولا يلاحظه جيداً الإصلاحيون. ما هي أزمة النخب والإصلاحيين في اللعبة؟ النخب تقاتل باعتبار اللعبة صفرية أو بالثقافة الشعبية "قاتل أو مقتول"، هي تدرك تماماً أنها سوف تخسر كل شيء، أو معظم مكاسبها في لعبة طبيعية سلمية، ولا تريد أن تقبل باللعبة، ولا حتى أن تصل إلى تسويةٍ، تتنازل فيها عن مكاسبها الفاسدة، وتحتفظ بجزء منها في مقابل أن تظل لاعباً أساسياً، يعيد اللعب على أسس وقواعد جديدة، مختلفة عما سبق. ويقع الإصلاحيون في أزمتين: الأيديولوجيون منهم يتوهمون أن القضية مبادئ أيديولوجية، يدافعون عنها، ويموتون لأجلها، فيدمرون اللعبة. واليائسون والغاضبون والمظلومون والمهمشون يشعرون بأنهم خسروا كل شيء، ولن يخسروا شيئاً جديداً إذا دخلوا مع النخب في صراع مدمر، ولا يرون بأساً في أن يموتوا، لأجل إلحاق الضرر بالنخبة المهيمنة. وهنا يدخل الإصلاح في متاهة مدمرة.. يتحول إلى ما يشبه مصارعة الأسود، أو ينحرف إلى صراع نهائي مدمر بين المستضعفين أنفسهم. ولا تعود النخبة المهيمنة طرفاً مباشراً، أو مستهدفاً في هذا الصراع. والأسوأ من ذلك أن الفئة المرشحة لقيادة الإصلاح ومواجهة النخب تنسحب، بطبيعة الحال، لأنها في تركيبتها الاجتماعية والطبقية لا تصلح لمثل هذا الصراع، وغالباً ما تتحالف مع النخبة المهيمنة ضد مصالح المجتمعات وحلفائها المفترضين وقواعدها الاجتماعية، أو تأوي إلى الظلّ، أو تهاجر وتبتعد نهائياً عن الملعب! كيف يظل الصراع لأجل الإصلاح سلمياً؟ وكيف ينظم في لعبة ذات قواعد وحدود ونتائج واضحة متفق عليها؟

فاللعبة بما هي تنافس، أو صراع، يجب أن تدار ضمن قواعد وقوانين متقبلة، متفق عليها بين الطرفين. ولا يمكن المشاركة في اللعبة بغير قواعدها وقوانينها المتبعة، حتى لو لم تكن هذه القواعد عادلة أو صحيحة أو منطقية، والمشاركة في اللعبة بغير قواعدها، أو من دون معرفة بها، يعني خسارة مؤكدة، أو فوضى.

ثمة قاعدة أساسية في اللعب، بشكل عام، إن لم تحصل على الفوز تستطيع أن تبقى في الملعب، ولا تغيب عن الساحة، ولا تتحول إلى جمهور أو مراقب. وهناك قواعد وقوانين غير معلنة، تبدو وكانها مرفوضة، لكنها تعمل بفعالية وكفاءة ويتواطأ عليها الفرقاء. لا تتظاهر بأنك اكتشفت سرا عظيما، الكل يعرف هذا السر ويتظاهر بأنه لا يعرفه، وعندما تعلن السر لن تضر اللعبة بشيء، كل ما يحدث أنك تخرج نفسك من اللعبة. ولكن إذا لم توافق على هذه القوانين، ولم تقدر مواصلة اللعب في ظلها فانسحب بهدوء وصمت، لست بطلاً بانسحابك، ولا بمشاركتك، ولست مخطئاً، ولا مصيباً.

يمكن أن تجد على هامش اللعبة وحولها مجالاً للعبة أخرى لا تستطيع أن تلعبها من غير المباراة القائمة. ولكن يجب أن تتذكر أنك تلعب لعبة أخرى.. لا بأس بذلك، ولكن لا تنس ذلك، حتى لو جلبت الأنظار، وحققت أهمية موازية، لا تقل عن أهمية المباراة الأصلية، تذكر دائماً أنك شريك في اللعب، حتى لو كنت رافضاً لها،.. هذه قصة كبيرة،..

في عام 2006، عندما عقد منتدى دافوس في البحر الميت، نظم المنتدى الاجتماعي الأردني، وكان يرأسه خالد الكلالدة وزير الشؤون السياسية والبرلمانية في الحكومة الأردنية الحالية، وكنت نائب الرئيس. والمنتدى جمعية تعمل ضمن منظومة مناهضة العولمة التي ظهرت في التسعينيات، وكانت تعقد، كما نتذكر، في مواجهة كل منتدى عالمي منتدى مناهض، أو تنظم مظاهرات وتجمعات. وكانت، كما فعلت في سياتل، قادرة على التأثير الإعلامي والاجتماعي. أما محاولتنا فكانت محدودة بحكم إمكاناتنا واهتمام المجتمع، ولم نستطع أن نشكل ظاهرة، كما حدث في سياتل وبورتوليغري في البرازيل، لكنها كانت لعبة ذكية. ففي قاعدة البحث عن الرأي الآخر لدافوس/البحر الميت لم يكن سوانا، فقصدتنا وسائل الإعلام العالمية (المحلية يفتح الله) ومنحتنا مساحة جيدة ومعقولة، لنعبر عن رأينا في العولمة.

كانت حركة سياسية وإعلامية مهمة بالنسبة لنا. ولكن الاعتقاد بأننا مكافئون لمنتدى دافوس وَهْم كبير بالطبع. كنا (أغلبنا) نعلم اللعبة، ولا نقول شيئاً طبعا، ونتظاهر بأننا نتصدى للعولمة، والإعلام يتظاهر بأننا كذلك. اللعبة أننا نريد، ونحاول أن نسمع صوتنا، وهناك من يريد في هذه اللحظة أن يسمعنا.. الذكاء في اللحظة، ولا يعني أننا أذكياء إلا بمقدار التقاطنا لحظة. ولكن أن يعتقد بعضهم، كما حصل لأصدقاء يساريين، أننا تصدينا للعولمة الليبرالية، واستطعنا أن نهزمها، بدليل الأزمة العالمية، ليس فقط خروجاً من اللعبة، لكنه خروج من الواقع.

هنا، تنحرف اللعبة أو تدمر، فأن ينسى اللاعب قواعد اللعبة وفضاءها وحدودها، أو يظن أنها حالة دائمة، وليست لعبة لها وقت محدد وتنتهي، ذلك يجعل النشطاء والمعارضين يصابون بما يصاب له لاعب سيرك، يعتقد، بالفعل، أنه خارق في الواقع، كما هو في السيرك، أو مثل ممثل يقدم شخصية صلاح الدين، يعتقد أنه صلاح الدين بالفعل. هنا يحتاج العاملون في السياسة والمعارضة إلى تدخل علاجي!

428F6CFA-FD0F-45C4-8B50-FDE3875CD816
إبراهيم غرايبة

كاتب وباحث وصحفي وروائي أردني، من مؤلفاته "شارع الأردن" و"الخطاب الإسلامي والتحولات الحضارية"، وفي الرواية "السراب" و"الصوت"