لبنان في رحلة هواجس جديدة

لبنان في رحلة هواجس جديدة

11 مايو 2014
+ الخط -
يعيش لبنان مرحلة انتقالية دقيقة، قبيل إجراء الانتخابات الرئاسية، والتي يبدو أنها ستطول إلى حين التوافق على اسم الرئيس العتيد، على الرغم من حركة اتصالات داخلية وخارجية مكثفة، في محاولة لاستكمال المشهد الحكومي، والذي تم في تسهيل تشكيل حكومة الرئيس تمام سلام التي أبصرت النور بعد أكثر من عشرة أشهر من التأخير، وأيضاً ما تم من خطوات لاحقة، تتعلق بعمل هذه الحكومة، من خلال تسهيل كل الفرقاء المشاركين قرارات مجلس الوزراء، وهو ما حصل في الخطط الأمنية من طرابلس إلى البقاع، وصولاً إلى التعيينات الإدارية.
هاجس الرئاسة أطلق حمّى الترشيحات من الأطراف المسيحية المارونية، الممثلة للقوى السياسية التي حاولت البطريركية جمعها تحت سقف مرجعيتها، وهم رؤساء: التيار الوطني الحر، العماد ميشال عون، وحزب الكتائب، أمين الجميل، وحزب القوات اللبنانية، سمير جعجع، وتيار المردة، النائب سليمان فرنجية، وأطلق الهاجس نفسه، أيضاً، هواجس أخرى، تتعلق بالدور المسيحي، وحقيقة موقعه في السلطة السياسية، في ضوء تراجع صلاحياته، والذي برز بعد اتفاق الطائف. ومن هنا، كانت دعوات البطريرك الماروني، الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، كما الفرقاء المسيحيين، باتجاه تسمية رئيس مسيحي "قوي"، يعيد إلى موقع الرئاسة ما فقدته في السنوات السابقة، ويستطيع أن يشكل مرجعية قوية، كما موقعا الرئاسة في مجلسي النواب والوزراء مرجعيتان سياسيتان قويتان للطائفتين الشيعية والسنية.
يحاول البطريرك الراعي أن يلعب دوراً في توحيد الصف المسيحي الماروني، المنقسم بين الطائفتين الشيعية والسنية، عبر ما يُعرف بقوى 8 آذار و14 آذار، ما يشكل مهمة صعبة، في غياب تسوية سياسية شاملة، يمكن أن تقود لبنان إلى ردم الهوّة بين الطائفتين، وفي غياب الاهتمام الدولي والإقليمي لإنجاز هذه التسوية. وممّا لا شك فيه أن الصراع المسيحي الداخلي، ولا سيما بين عون وجعجع، ساهم كثيراً في استمرار الانقسام المسيحي لاختيار مرشح، يمكن أن يكون رئيساً قوياً ويمثل المسيحيين، ويزيل جزءاً من حالة ما يسميه بعضهم "الغبن" أو "الإحباط". لأن الرئيس، ومنذ "الطائف"، جاء باتفاق إسلامي إسلامي، أكثر منه بقرار مسيحي. ولعلّ المشهد الذي كرسته جلسات الانتخاب، ولا سيما الأولى، من خلال ترشح جعجع عن قوى 14 آذار، وتريث عون وانتخابه الورقة البيضاء، بانتظار توافق بشأن ترشيحه من تيار المستقبل الذي لم يعطه الموافقة، حتى الآن، على الرغم من لقاءاتٍ واتصالاتٍ لم تنقطع بين بيروت وباريس، يكشف طبيعة الصراع المسيحي، وصعوبة وصول أي من الزعماء المسيحيين الأربعة في هذه المرحلة.
في الجانب الآخر، تعمل القوى الإسلامية، ولا سيما حزب الله وحركة أمل من جهة، وتيار المستقبل من جهة ثانية، من أجل تكريس مفهوم الرئيس التوافقي الذي يحظى برضى الجميع، بمعنى أن الرئيس هو الحَكَم، وموقعه يختلف عن رئاستي المجلس النيابي ومجلس الوزراء، وهو يفترض أن يجمع مختلف الأطراف تحت سقف بعبدا، ما يمكن تفسيره بمحاولة إرضاء نتيجة ما خسره موقع الرئاسة الأولى، بعد اتفاق الطائف، من صلاحياتٍ أعطيت للطائفة السنية، عبر رئاسة مجلس الوزراء مجتمعاً، إضافة إلى ما كسبته الطائفة الشيعية بعد اتفاق الدوحة بحقها في فرض فيتو تعطيلي على الحكومة في حال عدم موافقتها على مكوناتها.
صحيح أن الطائفتين الشيعية والسنية، وخصوصاً عبر تصريحات مسؤوليهم، يعبّرون عن تمسكهم بالمناصفة، في السلطة السياسية التشريعية والتنفيذية، بين الطوائف المسيحية والإسلامية، كما جاء في "الطائف"، إلا أن أصواتاً عديدة بدأت تعلو، ولو خجولة، للمطالبة بإعادة النظر في التقسيمات، إذا ما كان المعيار العددي هو الحَكَم، نتيجة الخلل الديموغرافي الذي أصاب البلد أثناء الحرب الأهلية وحتى بعيد "الطائف"، بزيادة هجرة المسيحيين وزيادة في عدد المسلمين، ما يمكن أن تطرحه الطوائف الإسلامية عند أي استحقاق يتعلق بدراسة الدستور وإمكانية إجراء تعديلات عليه.

الدعوة إلى تعديلاتٍ، أو إصلاحاتٍ، في بنية النظام السياسي، طرحها الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، عندما دعا إلى عقد مؤتمر تأسيسي، يمكن، من خلاله، طرح معظم البنود الإشكالية التي تحتاج إعادة النظر، ويمكن أن تطور النظام السياسي في لبنان، ما فسّره متابعون عديدون بأن هذا الكلام من السيد نصر الله بداية جس النبض، من أجل طرح فكرة "المثالثة" لدى الطوائف الكبرى، أي السنية والشيعية والمسيحية، ما يحتاج توافقاً بين الجميع، ورعاية إقليمية ودولية غير متوفرة في الظروف التي تمر بها المنطقة، وخصوصاً في سورية، لانشغال العالم بأزماته، كما بأزمة أوكرانيا، وبما يحصل في العالم العربي بعد الثورات، لا سيما في سورية المستمرة في نزيفها الدموي، من دون أي أفق سياسي قريب.
عند كل استحقاق، وخصوصاً رئاسة الجمهورية، يمر لبنان بمرحلة دقيقة، ترتبط، بالضرورة، بتوافقاتٍ خارجيةٍ وداخلية. ومع اقتراب موعد الخامس والعشرين من الشهر الحالي، وهو مغادرة الرئيس ميشال سليمان القصر الجمهوري لانتهاء ولايته، ودخول لبنان مرحلة الشغور في منصب الرئاسة، ترتفع الأصوات المحذرة من خطورة هكذا مرحلة على الوضع في لبنان، وهو ما حذر منه تكراراً البطريرك الراعي، كما مجلس المطارنة الذي أبدى، في بيانه الشهري، قلقه من الفراغ، ودعا القادة الموارنة إلى أن "يعتبروا الالتزام الذي أعلنوه في لقاء البطريركية المارونية، وهو انتخاب الرئيس في المهلة الدستورية، خريطة طريق أخلاقية لخوض الانتخابات الرئاسية".
هذا التحذير من الفراغ أجمع معظم الأفرقاء عليه، لا بل حتى سفراء أجانب عديدون، في مقدمتهم السفير الأميركي، ديفيد هيل، والذي يجول بين بيروت والرياض وباريس من أجل إنجاز الاستحقاق الرئاسي في موعده، إلا أن المؤشرات، حتى الآن، تبدو غير مكتملة المعالم، وتحتاج انتظار استحقاقات تتعلق بالمنطقة، بدءاً من العراق، مروراً بمصر، وصولاً إلى سورية، وما يمكن أن ينتج عن الاتصالات الأميركية ـ الإيرانية، وبالتالي السعودية ـ الإيرانية، المتعلقة بالاستحقاق الرئاسي اللبناني.
دخل لبنان في الفراغ، قبيل المهلة الدستورية، نتيجة عدم حصول توافق على مرشح وفاقي، وهو اليوم أمام مرحلةٍ ضبابية تأخذه، ولو في غياب توتراتٍ أمنية، بفعل وجود حكومة توافقية، إلى الانتظار، والوصول إلى تسمية رئيس من خارج الصف الأول، أي الزعماء الذين التقوا في بكركي، وبرضى بطريركي، كما برضى سني وشيعي، أو أننا متجهون نحو تغيير في النظام السياسي، ينتج رئيساً وصيغة جديدة. وهذه المرة، بتأثيراتٍ إيرانية ـ سعودية، وبرعاية أميركيةٍ ـ فرنسية، على مستوى أكبر من اتفاق الدوحة، وأصغر من اتفاق الطائف.