كيف يظل المعتقل فاعلاً في حركة الحياة؟

كيف يظل المعتقل فاعلاً في حركة الحياة؟

30 يونيو 2016
(تصوير: إبراهيم رمضان)
+ الخط -

بالتزامن مع الانقلاب العسكري في مصر قبل ثلاث سنوات، كنت أجهز لأطروحة ماجستير حول بعض أعمال الروائي المصري نجيب الكيلاني (1931 – 1995)، ولفت انتباهي أن الرجل سطّر أولى رواياته أثناء فترة اعتقاله في خمسينيات القرن العشرين، وأثار إعجابي أن طالب الطب لم يستسلم حينها لظروف اعتقاله القاسية التي حرمته من متابعة دراسته، وتقدم ببواكير إنتاجه الأدبي لمسابقات كانت تنظمها عدة جهات، منها نادي القصة ووزارة التربية والتعليم، وفاز بجوائزها وتقرر تدريس بعض أعماله على طلاب الثانوية العامة، وذاع صيت الأديب الشاب السجين، فكان المعتقل بذلك نقطة انطلاقه في عالم الأدب.

وحينما أصبحت مثله سجيناً سياسياً منذ ما يزيد عن عام، لم أشغل بالي بالسؤال عن موعد خروجي الذي لا أعلمه ولم أكترث للمعاناة التي يواجهها كل سجين، ولكني كنت أفكر في الإجابة عن سؤال آخر: كيف أفيد من فترة اعتقالي وأجعل منها نقطة انطلاق.

ووضعت لحياتي في السجن خطة أراجعها بين الحين والآخر.
لم أكن وحدي الذي يفكر بهذه الطريقة، فقد التقيت في السجن شباباً كثيرين نظروا إلى السجن من ذات الزاوية. عقدنا معًا ورش عمل مطولة حول: كيف يظل المعتقل فاعلًا في حركة الحياة؟ لقد أرادت السلطة المستبدة أن تعزلنا عن حركة الحياة وأردنا نحن أن نظل حاضرين، أرادت أن تجعل لاعتقالنا أثرًا سلبيًا على حياتنا وحياة ذوينا وأردنا ألا نمكّنهم من ذلك، أرادت أن تجعلنا عبرة لترهب المجتمع وأردنا أنفسنا نماذج يحتذى بها.

قسّمنا الفاعلية في حركة الحياة إلى عدة محاور؛ منها ما يتعلق بشخص المعتقل في سلوكياته ومعنوياته وصحته ونشاطه الرياضي والثقافي والتعليمي والعمل الحياتي وغير ذلك، ومنها ما يتعلق بدوره نحو أسرته وأصدقائه ودوائر اتصاله الطبيعية خارج السجن، ومنها ما يتعلق بحالته الثورية ودوره في تدعيم الثورة وفكرة التغيير. ووضعنا لكل محور ولكل بند أهدافه واقترحنا وسائل وإجراءات تحقق هذه الأهداف.

أصبح السجن مكانًا كأي مكان لا تتوقف فيه عجلة الحياة، فانعكس ذلك إيجابًا على معنويات نزلائه. حدثني أحدهم ذات مرة أنه لم يعد منزعجًا من طول بقائه هنا لأن حركة حياته مستمرة وكثيرًا من طموحاته يتحقق. وما زلت أذكر ذلك الشاب الذي صاحبنا عدة أسابيع قبل أن يفرج عنه حينما قال: لقد تعلمت هنا أمورًا كثيرة ما كنت أظنني أتعلمها دون اعتقال.

لقد تعلم الشباب ألا يدمنوا النظر إلى شطر الكأس الفارغ، وأن يصبوا اهتمامهم على الشطر الممتلئ؛ فإن كان السجن قد أبعدهم عن أهلهم فقد مكّنهم من الاعتماد على أنفسهم حتى يشبّوا عن الطوق، وإن كان السجن قد فرق بينهم وبين أصدقائهم فقد جمعهم بآخرين لهم نفس الأهداف، وإن كان السجن قد حرمهم الدراسة في مدارسهم وجامعاتهم فلم يحرمهم متابعة دراستهم في معظم الأحوال، وإن كان السجن قد حرمهم أساتذتهم فقد أوجد لهم بدلاء عنهم في تخصصات مختلفة، وإن كان السجن قد منعهم من المشاركة في فعاليات ثورتهم فقد منحهم فرصة للتفكر الهادئ والتثقيف العميق.

لا أدعي أن الصورة وردية وأن الجميع يفعلون ذلك بنفس القدر؛ فالناس متفاوتون في قدراتهم واستعداداتهم، وحسبنا أن الراية مرفوعة لمن يريد أن يلتف حولها. ولا أنكر أن السجن محنة قاسية ولكن فيه منحاً لمن أراده كذلك، ولا أزعم أنه خالٍ من المعوقات ولكن دورنا أن نغالبها لنجعل منه نقطة انطلاق. لست أنفي أن له مرارة ولكن التجربة أثبتت أنه بالإمكان أن نصنع من الليمونة المرة شرابًا حلوًا.


* معتقل على ذمة قضية سياسية. عمل مدرسًا ومدققًا لغويًا ومعلقًا صوتيًا، مدون وناشط سياسي مصري، باحث متخصص في الأدب العربي الحديث




دلالات

المساهمون