كيف ومتى سينهار النظام الصحي في تونس؟

كيف ومتى سينهار النظام الصحي في تونس؟

30 ابريل 2020
+ الخط -
سؤال العنوان يحدّد في ذاته إشكاليّة مصير وطن، فلو انهار النّظام الصحّي، ستفلت الأمور من بين يد الجميع، ستعود الأوبئة، ويكثر الموتى ولن نجد معالجا، بكسر اللام، ولا معالجاً، بفتحها.

وقبل هذا كلّه، هل فعلاً بإمكان النّظام الصحّي أن يسقط وينهار؟ لا شكّ في ذلك، فأيّ نظام يصل إلى مرحلة عجزه عن تقديم الخدمات الصحّية لمستحقّيها، علاج أو وقاية، يكون قد سقط فعلا. وأي نظام يفوق طلب الخدمات قدرته على تحقيقها الفعلي يكون في حكم الساقط.

وقد جاءت كورونا، فاكتشف التونسيّون أنّ مستشفياتهم غير قادرة على احتمالات انتشار المرض بكثافة. فداخل تونس وغربها لا يمتلكان مقومّات حقيقيّة لمجابهة أمراض عادية، فما بالك بفيروس قاتل، فهو يعتمد صحّيا على شرق وساحل مكتظّين، وهذان بدورهما لم يتطوّرا على مدى أكثر من ستّين عاماً من الاستقرار.

كما اكتشف التونسيون أنّ إدارة القطاع الصحّي قد ترهلت، وهي ليست قادرة إلا على إنجاز الواجب اليومي كما تحدّده الظروف، وأن القائد، على رأس الوزارة، قد يتبنّى مواقف لا تمتّ بصلة لواقع القطاع الذي يشرف عليه، لأن معاونيه، إما غرباء عن تونس الكل، بكل تفاصيلها، أو انّهم أصحاب مصالح، قد تعصف بهم سرد الحقيقة لمرؤوسيهم.

وفي هذه ظل الظروف الراهنة يتنزّل سؤال مقالنا، هل بلغ النّظام الصحّي في تونس نهايته، أو مرحلة انهياره؟ وكيف ومتى سينهار؟ وهل أن سنة 2011 كانت فاصلاً ما بين نظام صحي تونسي مؤهل وقادر، ونظام صحّي بالكاد يستجيب لمتطلبات الناس، وهو على شفا الهاوية؟


الجواب، سنة 2011 كانت السنة الفاصلة ما بين التعتيم والإفصاح، ما بين طمس الحقيقة وتغييبها وإنارة الناس بها، في 2011 ابتدأت مرحلة رفع الضمائد عن جراح مخفية يعاني منها القطاع الصحي منذ أكثر من ستين عاما. فكانت الصدمة، بأن هذا النظام الصحي قد تعفن برمته، ويحتاج غلى إعادة تأهيل.

قبل 2011 كانت الجريمة وما بعدها كان اكتشاف مسرح الجريمة وإحصاء الأضرار، من قتلى ومجروحين وخسائر مادية.

منجزات ما قبل 2011 في القطاع الصحي ما زال البحث جاريا عنها، جميعها. وما تبين منها لم يكن سوى سلوكيات عنصرية في معظمها، كانت بحسن أو سوء نيّة، فرّقت ما بين أبناء الشعب الواحد، ودقّت بينهم مسامير النعرات الجهوية.

لم يفلح حاكم ما قبل 2011 في صنع مؤسسات صحّية مهمّة. أهمّ المؤسّسات الصحّية في تونس، أنشأتها سلطات الاستعمار الفرنسي. المستشفيات الكبرى، شارنيكول (1897) والرابطة (1897) وفرحات حشاد (1938) ومعهد باستور (1893)، كلها أنجزت قبل سنة 1956، وقامت سلطات الاستقلال، لاحقا، بمساندتها على الاستمرار دون تطويرها. ولكنه أفلح منذ الاستقلال إلى سنة 2011، في أن يقسّم تونس، على المستوى الصحّي، إلى نصفين، لا يتشابهان، بل يتناقضان.

أنصاف تتميّز في الإمكانيات. نصف يمتلك أكثر من 80% من مقدّرات القطاع الصحّي، مؤسسات وموارد مادّية وبشريّة، ونصف ظلّ يقاوم في العراء وبلا أسلحة، بلا أدوية، بلا وسائل تشخيص، وبلا أسرّة كافية تؤوي المرضى لرعايتهم طبيا.

أنصاف تفرقها الجغرافيا. نصف يحتل الشريط الساحلي، وكأنّه يقول "وجعلنا من الماء كل شيء حي"، ونصف على الشريط الغربي، يحتمي بخشونة الجبال وقسوة الصحراء. أنصاف يُؤثِر بها الساسة أهاليهم. نصف قريب من مزارع الحكام ومنازلهم. ونصف للمهمّشين، المصنّفين حاليّا جياعا وفوضويين، وأصحاب دم ساخن وثورة.

أنصاف يعذّب بعضها المسافة. نصف بائس، يضطرّ كلّما مرض إلى التنقل إلى النصف الآخر مئات الكيلومترات باحثا ولو عن حبّة أسبيرين تساعد سيلان الدم في عروقه.. وأنصاف تختلف في شعور الانتماء للدولة. نصف آمن بالدولة راعية له لأنّها وفّرت له ما يحتاج.. ونصف آمن بأنّ الدّولة أقصته وحرمته وأذلّته..

وأهمّ من هذا كله فإنّ حكام ما قبل 2011 أفلحوا في ضرب القطاع العمومي الصحّي من داخله وبرمّته، في نصفه الجنّة ونصفه النار. فسمحوا للقطاع الخاص بأن يقتحم المستشفيات، وأن يتحوّل الموظّف العمومي إلى آلة هدم من داخل موقعه. فكثرت الرشاوى داخل المستشفيات، وظهرت لوبيات فساد، تستعمل مقدّرات المستشفيات لصالحها الخاص. فتحوّلت في كثير من الأحيان الخدمة الصحّية للمحتاجين من عمل نبيل وشريف إلى سلعة بمقابل خارج النّظم والقوانين. ومن لا يمتلك المال لا حظ له في العلاج.. وبعد 2011 استفاق الكل على فجيعة عظمى.

وكم أشفق على كل وزراء الصحّة الذين أشرفوا على الوزارة ما بعد 2011، وأكثرهم إثارة للشفقة الوزير المكّي، الذّي وصل إلى كرسيّه في زمن يحتضر فيه الوضع، زمن كورونا.

أشفق عليهم وقد فُتح جُرح القطاع الصحي ورُفعت عنه الضمائد. وتبيّن بأنّ دولة الستّين عاما لم تبن نظاما صحّيا، وأنّ ما تحت الضمائد ليست مؤسسات صحّية منهكة، واحدة انتهكتها الغرغرينا.. وأخرى تعفّنت إلى حدّ بعث روائح كريهة، وأخرى تعيش بنصف قلب، وأخرى واقفة في العراء دون أن تكون مرتبطة بنظام فاعل، وهي في حكم الميْت الذي ينتظر ساعة دفنه.. لكن الخوف كان هو العنصر الأساسي للضمائد التي غطت فسادها.

فجاءت الثورة التونسية وحرّرت الألسن والتفكي، وكورونا عرّت التفاصيل عن وضع القطاع.. صار بإمكان أبناء القطاع الصحّي أن ينتقدوا، رئيسهم ووزيرهم، وأن يكشفوا عيوب نظام الصحّة.

لم تتحرّك إلى حدّ الآن ماكينة القانون لتحصد ألسنتهم، وترهبهم وترهنهم بالخطايا أو السجن أو الرفض من العمل، فواصلوا انتقاد ونقد ما يحدث، دون أن يصمتوا، وكأنّهم يردّدون آلاما قديمة جدا، تمنّوا ذات يوم كشفها وتغييرها.

كما تجرّأت وزارة الصحّة على نشر غمكانياتها، من موارد بشريّة وماديّة ومؤسّسات، على موقعها على النت، وكلّ من قرأ ما نشر تأكّد بأنّ هناك حيفا وظلما في تقسيم هذه الإمكانيات بين نصفي تونس، اللذين تحدثنا عنهما، ناهيك عن أنّ كل الإمكانيات لا تكفي لرعاية شعب فاق تعداده 11 مليوناً.

فلو حدثت الكارثة من جراء كوفيد 19 ستكون النهاية الدرامية للقطاع الصحّي في تونس. فلا المؤسّسات تتّسع لكل المرضى، ولا الأسرّة تكفي، 0.23 سرير إنعاش و0.8 سرير أمراض قلب لكل 10 آلاف ساكن، ولا عدد الأطبّاء وأعوان الصحّة يكفي، 13 طبيبا و25 ممرضا لكل 10 آلاف ساكن، ولا أجهزة التنفس الاصطناعي تكفي، ولا نصف تونس المهمّش قادر على الصمود، ولا نصفها القويّ قادر على احتواء كل مرضى تونس، وسيكون الأموات بلا عدّ.. وذاك ما أبكى وزير الصحّة عبد اللطيف المكي، ولم يفهم، آنذاك، اي أحد بكاءه!

كان الوزير خائفاً من تلك اللحظة المرعبة التي قد يُعلن فيها انهيار النّظام الصحّي، وعدم قدرته على الاستجابة إلى حاجيات الناس.

وضع النّظام الصحّي في تونس سيئ. فهو نظام قادر على تسيير الأحداث الصحّية العاديّة، وعلى ترتيب مواعيد طبّية للمرضى، قد تكون طويلة الأمد، وقد لا يبقى المريض حيّا إلى حينها، إلا أنّه نظام غير قادر على علاج كل أبناء تونس، أو حتّى أغلبهم.

إذا، متى ينهار النظام الصحّي في تونس؟ بكل بساطة ينهار عند وجود أحد الاحتمالين، أن تضرب جائحة أو كارثة طبيعية البلاد، أو أن يستمر عمل النظام بعقلية وإجراءات ما قبل 2011.

ويبقى المطلوب من وزير الصحة، ومن دولة تونس، إعادة ترتيب الأوضاع من جديد، معتمدا في ذلك على أربعة أسس لا مجال لتجاوزها في البداية:
الأول: الاعتماد الكلّي على منظومة الرقمنة. فستخوّل للوزير إمكانيّة الاطّلاع على وضع مؤسّساته الصحية وهو في مكتبه، فيتمكن من تمييز آراء حاشيته، والتي غالبا ما تكون بالمحاباة. كما أن هذه الرقمنة ستساعد على التصرف في كل الموارد البشرية والمادية من آلات عمل.

الثاني: تجديد المنظمة القانونية الحالية، فقد ترهلت، ولم تعد تستجيب لواقع الحال. فأغلبها أصدر في الستينيات والسبعينات، ولا تزال قائمة وغير ملائمة، وتطبيقها يعيق العمل ويكبله.

الثالث: فتح باب البحث العلمي الحقيقي. وليس كما كان، بتعيين مجموعات لتبرير أعمال وزارية أو لتقديم هدايا للأصدقاء، دون أن يحدث البحث.

الرابع: إلغاء ممارسة النشاط الطبّي الخاص لأطبّاء الصحّة العموميّة داخل مؤسّساتهم. فممارسة هذا النشاط كان الضّربة التي حوّلت المستشفيات العموميّة إلى قطاع خاص داخل القطاع العمومي، فاستثمر فيها البعض خارج القانون، وخسرت المؤسّسة، وخسر من لا يقدر على دفع معاليم العلاج المفروضة عليه خارج القانون..

وفي الأخير، لا تزال الفرصة قائمة لإنقاذ القطاع العمومي الصحّي التونسي من الانهيار، وهو على شفاه. فهل يفعلها الوزير؟ والسؤال الأصح، هل تمنحه الأحزاب المنافسة له ولحزبه هذه الفرصة التاريخية؟ هذا ما ستجيب عليه الأيام القادمة.

دلالات

محجوب قاهري
محجوب أحمد قاهري
طبيب وناشط في المجتمع المدني، يكتب المقالات في عدد من المواقع في محاولة لصناعة محتوى جاد ورصين.