كيف نفهم العنف

كيف نفهم العنف

03 يونيو 2018
+ الخط -
العنف ظاهرة إنسانية ملازمة لكل المجتمعات، فهل سيزول بالتحضر ومراقبة النزوات أم سيستمر؟ لا أحد يستطيع الجزم والانتصار لنظرية دون أخرى. لكن ما يمكن فعله منهجيا مراقبة تجلياته، وكيف يشتغل، وما هي الأوضاع والظروف والعوامل المرافقة له، وما هي آثاره على المجتمع والناس؟
يتجلى العنف في المغرب، رمزيا أو جسديا، في مجالات عدة، منها عنف الدولة؛ والعنف ضد المرأة؛ وعنف الشارع؛ والجريمة، وعنف المدرسة والجامعة وغيرها.
لدراسة ذلك، أمامنا الآن حشد كبير من الوقائع التي يمكن فحصها ومحاولة فهمها من أجل التحليل. عندنا أولا عنف الدولة؛ الرمزي الذي يتجلى في محاصرة الإرادة الحرة للناس عبر صناعة الأحزاب والانتخابات، والجسد السياسي برمته؛ أو في إقفال قنوات التواصل، والإعلام منه خصوصا، أمام التعبير الحر؛ أو في مراقبة الشأن الديني وضبطه؛ أو في التقنين المفرط لمضامين التعلمات في المدرسة... أم على مستوى العنف الجسدي الذي يتجلى خصوصا في أحداث بعينها؛ مثل قمع حراك الريف؛ وساكنة جرادة؛ وزاكورة، وغيرها.
تجليات العنف عديدة؛ وتتراوح بين العنف الرمزي غير المرئي؛ مثل عنف البرامج؛ وصناعة الرأي وتوجيهه؛ أو إفراغ العمل السياسي من دلالته بالتحكم. وقد يزداد حدة ليتجلى على شكل احتقار المواطن وتبخيس أفعاله ونفي إنسانيته. ليصبح في الأخير عنفا جسديا فجا بالضرب والاعتقال.
هذا على مستوى الدولة، أما أفراد المجتمع وجماعاته فتتفنن في ألوان من الأذى المعنوي مثل التحرش؛ والسب؛ والقذف؛ والنبذ؛ والوصم؛ وخلق الحكايات المسيئة، وكذلك المادي من ضرب؛ وجرح؛ واغتصاب؛ وسرقة، وقتل.
في كل الحالات، يتمظهر العنف على أنه نقص في الإدراك، يسميه المغاربة نقصا في التربية، وهو نوع من النتيجة الحتمية لمسار شخصية غير متزنة ومتفتحة كفاية، وبذلك تغلب عليها النزوات وتتصرف وفق رد فعل غالبا ما يعبر عن عدم أخذ المسافة الكافية لفهم ما يجري، فالتلميذة المعنفة للأستاذ، ربما تعبر عن سخطها للبرامج وللطرق وللمدرسة التي عنفتها مسبقا. وعنف الأستاذ ليس سوى رد فعل لتلميذة مشاغبة تريد إزعاج الفصل في سياق وضعية تعلم يستدعي الهدوء الكافي، والإدارة المحلية والجهوية قامت هي أيضا برد فعل عندما آزرت التلميذة، وهكذا دواليك.
"والله لم أكن أعرف ما كنت أفعل"، هذا ما يقوله المعنف غالبا، وهو تعبير عميق على أنّ العنف حالةٌ لا معنى ولا إدراك. كيف نصل إلى تلك الحالة العمياء، وذلك الثقب الأسود الذي يقضي على العملية الإدراكية برمتها؟
لفهم ذلك، لا يمكن حصر التحليل في العملية الذاتية التي يدرك بها الناس الأشياء، لا بد من استحضار أمور أخرى ثقافية ورمزية تشكل مخيال الناس، وتمدهم بأدوات تمثل العالم. تلك الأمور هي القيم والتوجهات، كيف تتكون وكيف تشتغل، ثم الوسائل التي تنتشر بها لتؤثر في السلوك اليومي.
في غياب ثقافة احترام الإنسان بوصفه إنسانا، والمواطن باعتباره صاحب رأي، من الدولة والمؤسسات. وفي غياب أدوات كشف القناع وتفكيك وسائل الاستعمال والاستغباء من أجل بناء الرأي العام، والتعبير عنه عبر قنوات مقننة قانونيا ومتفق حول شرعيتها، في غياب ذلك تصبح لغة العنف هي البديل. لغة لا قيم؛ ولا ثقافة؛ ولا تواصل، فيسبح الكل في العماء.
العنف إذا لا إدراك ولا قيم، ثم لا تواصل، لأنه ببساطة لا يمكن أن نتواصل من دون مضمون التواصل ومن دون مادته.
التواصل مهما تفنّنا في تقنياته وأنشأنا مخططات له، لا يمكن أن يتم من دون حد أدنى من معلومات متفق حولها ومعروفة لدى غالبية الناس.
العنف الاجتماعي إذا ليس سلوكا نفسيا يرتبط بالأمزجة والوجدان النفسي والفردي، بل هو بالدرجة الأولى قضية معرفة، وحقوق، وصدق. قضية معرفية لأن الأبستمولوجيا السياسية توضح دور القوة والسلطة والسياقات في إنتاج المعرفة وتصريفها. قضية حقوق تجعل الدولة أمام المسؤولية الأنثربولوجية في إنتاج البيداغوجيات الكفيلة بتأطير المجتمع عبر المؤسسات الحزبية والنقابية، وتسهيل مأمورية المجتمع المدني في قيادة وتدبير العلاقات الإنسانية والاجتماعية.
بعدها يكون التواصل ملائما، وبمضمون ينتجه أناس متكافئون في حد أدنى من الخيرات المادية والرمزية والمعرفية.
F103ACEE-0B16-4840-B9A7-80F65E4B72D2
F103ACEE-0B16-4840-B9A7-80F65E4B72D2
قسطاني بن محمد (المغرب)
قسطاني بن محمد (المغرب)