كيف تحدث الثورات الأخلاقية

كيف تحدث الثورات الأخلاقية

12 ابريل 2015
(دار كلمات للترجمة والنشر، ودار هنداوي- 2014)
+ الخط -
يعتقد أرسطو أن أفضل حياة هي تلك الحياة التي نحقق فيها ما أسماه "يودايمونيا".. وهي لفظ ترجمه الفلاسفة إلى كلمة السعادة. غير أن الفيلسوف والدبلوماسي الأفريقي "كوامي أنطوان أبياه" يرى أنها ترجمة مضللة، وأن الترجمة الصحيحة هي: "الازدهار الإنساني" أو "التقدم الأخلاقي". لكن كيف يحدث هذا الازدهار أو التقدم؟

يحاول أبياه أن يجيب على ذلك، حين يسلط الضوء على الدور الذي يلعبه مفهوم "الشرف"، وكيف يمكن لهذا المبدأ الكلاسيكي أن يصبح نجمًا هاديًا يأخذ بأيدينا نحو مستقبل أفضل؟! أجاد المؤلف كثيراً حين لجأ إلى تفاصيل بعض الأحداث التاريخية وتحليلها، باعتبارها السبيل الأمثل في تعميق فهمنا للأبعاد المتعددة لـ "الشرف". وهي ليست حكايات منفصلة ذات طبيعة محلية، بل هي خيوط نسيج حكاية إنسانية واحدة.

مع تتبع العديد من الثورات الأخلاقية؛ نلاحظ أن الحالات المتباينة، سواءٌ أكانت اندثار المبارزة، أو التخلي عن عادة ربط أقدام الفتيات الصينيات، أو نهاية العبودية على جانبي الأطلسي، يجمعها كلها أنه أُثيرت بشأنها حجج واضحة ومناقشات لمناهضة كلٍّ تلك الممارسات قبل زوالها. وهي حجج كان مدارها بشكل أو بآخر حول مسألة "الشرف". وكانت الثورة عليها بمثابة ميثاق جديد للشرف، يجب على الجميع احترامه.

الشرف والاحترام؟

إحدى طرق البدء في فهم أهمية الشرف بالنسبة لمبادئ الأخلاق، هي إدراك الصلات التي تربط بين الشرف والاحترام؛ فالاحترام عموماً واحترام الذات كلاهما فضائل إنسانية بالغة الأهمية، تشارك "الازدهار الإنساني" في مساعدتنا على العيش الطيب.

ويمكن أن نميز بين نوعين من الشرف وفقاً لعملية التقدير والاحترام المصاحب له؛ الأول هو "الاحترام التقييمي" وهو نوع من الشرف ذو طبيعة تنافسية، كالمتفوقين من الرياضيين والباحثين والأبطال العسكريين. أما النوع الثاني فهو "الاحترام الإقراري" ويُختص به من نعاملهم بطريقة تمنحهم الاعتبار المناسب لواقعٍ ما يمثلونه، مثل الشرطي أو القاضي. وميثاق الشرف يُثيب من يستحقون التقدير بوجه خاص في جماعة اجتماعية ما، ويُثيب أيضًا من يقومون بأكثر من المطلوب منهم تقديمه. فميثاق الشرف يوفر الحافز لمن يرغب في أن يذهب أبعد من حدود الواجب والمفروض".

اندثار المبارزة

كان من المفاهيم السائدة حول "الشرف" أن أيّ سيد نبيل يوجّه إليه تحدٍّ يجد نفسه أمام بديل مروِّع، وأحد البراهين الواضحة على ذلك هو وصية "الكولونيل توماس" التي كتبها في الليلة التي سبقت سقوطه صريعًا في "مبارزة" وقعت في 3 سبتمبر/أيلول 1783، يقول: "في المقام الأول، أودع روحي بين يدي الله القدير، وكلي أمل في رحمته وعفوه عن هذه الخطوة الفاسقة التي (طبقًا للأعراف التي لا أجد لها تبريرًا لهذا العالم الخبيث) أجد نفسي مضطرًا للقيام بها"!

ولقد مرت الثورة الأخلاقية على عادة "المبارزة" بمراحل متعددة، اقتنص المؤلف منها قصةً كانت محوراً لاندثار هذا النوع من الجرائم التي كانت تحظى بحماية مجتمع النبلاء تحت مسمى "الشرف".

في منتصف القرن التاسع عشر، حدث خلاف بين رئيس الحكومة البريطانية ويلينغتون الذي اتهمه وينتشيلسي بعدم الأمانة، في قضية سياسية ملتبسة. فلو كانت اتهامات وينتشيلسي في محلها، لكان أمرًا مخزيًا. فالميثاق ينص على ضرورة أن يبرئ المرء ساحته من تلك المزاعم. وأولى السبل لذلك هو الحصول على اعتذار علني. فإذا رفضَ صاحب الاتهام الاعتذار فإن الميثاق نفسه يطالبك بتحدي موجِّهِ الاتهام بمبارزة، ومن دلائل المبارزة أنك مستعد للتضحية بحياتك في سبيل ألا يظن الناس أنك متهم بمثل هذه التهمة المخزية. وقد اعتقد كل من ويلينجتون ووينتشيلسي أنهما، بالمبارزة، يدافعان عن شرفهما.

كانت للمبارزة أصول تحتم أن يقتل - في الغالب - أحد الخصمين، وتحتم حضور شهود نبلاء وحكم وطبيب، وفق ميثاق خاص! غير أن مسيرة تلك المبارزة اقتضت أن يترفع كل من السيدين النبيلين عن قتل الآخر، وهو ما أثار ضجة وانقلاباً على أصول هذه المبارزة غير القانونية، ثم اعتبارها عرفاً اجتماعياً غير أخلاقي، يمارسه النبلاء لتسوية خلافاتهم بعيداً عن القانون!

نالت تلك المبارزة انتقاد الصحافة المحلية، إضافة إلى استحسان صفوة الساسة في الجمهورية الأميركية الجديدة، التي تُعَدّ ثقافتها امتدادًا للثقافة البريطانية. وأثمر النقاش حول قضايا المبارزة اعتبارها عملاً ليس من المسيحية، ولا من العقلانية في شيء. وأنه ليس له دور في تحسين آداب اللياقة والأخلاق كما يدعي بعضهم، بل صارت محل ازدراء الناس.

تحرير الأقدام الصينية

إذا كانت قضية "اندثار المبارزة" ترسم ملامحَ التغيير والتحولاتُ التي عصفت بمشهد الشرف الشخصي، فإن اندثار عادة "ربط أقدام الفتيات في الصين" يمثل التحولات التي طرأت على أفكار متعلقة بشرف شعب.

ظلت عادة ربط أقدام الفتيات الصينيات مستمرة لأكثر من ألف سنة؛ إذ كانت مواثيق الشرف الخاصة به تُلزم النساء من بنات الطبقات الراقية بربط أقدامهن. ويتزوج الرجل الجدير بالاحترام من امرأة ذات قدمين مربوطتين؛ ولا تتزوج امرأة ذات قدمين مربوطتين إلا من سيد نبيل.

تحركت مشاعر الشاب المثقف "كانج يووي" تجاه الهوية الوطنية الصينية، فكتب إلى الإمبراطور سنة 1898 عريضة وقع عليها العديد من أقرانه الشباب من أجل ضرورة إنجاز العديد من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لتجاوز تلك الفترة العصيبة من تاريخ الأمة الصينية، حين لحقت بها الهزيمة من اليابانيين وفُرضت عليها شروط مذلة. وكانت أولى مطالب يونج الإصلاحية تحرير الفتاة الصينية من عادة ربط القدمين التي، من وجهة نظره التقدمية، تعد سبّة ووصمة عار في جبين الأمة الصينية، وزيف اعتبار هذه العادة البشعة من الشرف، بل إن الشرف الحقيقي يتمثل في نقيضها. قائلاً: "لا يوجد ما يجعلنا محط سخرية أكثر من عادة ربط الأقدام".

كان ربط القدم يبدأ في سن الطفولة المبكرة، حيث يتم سحق أصغر أربعة أصابع عن طريق ثنيها أسفل باطن القدم، كما كان يضغط على مؤخرة عظم الكاحل باتجاه باطن القدم كذلك؛ مما يجبر عظام القدم على أخذ شكل قوس أشد تحديبًا من أي قدم طبيعية! وعادة ما تحتاج القدم المربوطة بهذا الشكل إلى تطهيرها من الدماء والقيح؛ وأحيانًا كانت القدم تتعفَّن وتنفصل عنها الأصابع. ومع مرور الوقت، بعد شهور أو سنين، يقل الشعور بالألم، ربما لأن الأعصاب الحسية تكون قد أُتلفت للأبد!

أسهم زملاء كانج يووي وخلفاؤه في دعم الحملات المناهضة لهذه العادة المقيتة؛ فبدأت تظهر صور فوتوغرافية تبرز حجم التشوهات الجسدية، في حملات منظمة. ولم يكن أحد يلتفت إلى ذلك الأمر، حيث إنه دائمًا ما كانت القدم المربوطة تُغطَّى بأحذية أنيقة، ذات ألوان زاهية ومطرزة، تخفي تحتها جريمة حقيقية، كثيراً ما تسببت في الشلل وعدم القدرة على الحركة وعدم القيام بالواجبات أو القدرة على الفرار من المخاطر.

شيئاً فشيئاً بدأت المراسيم القانونية المحرمة لهذه العادة في الصدور، ثم بدأت نظرة الناس حول مفهوم الجمال تتغير شيئاً فشيئاً بفعل الضغط الداخلي من الطبقات المثقفة الناشئة والانفتاح الخارجي الذي شمل في بعض جوانبه تواصلاً مع الثقافة الغربية. ومع انتهاء عصر الأسرة الحاكمة سنة 1912م وبداية سيطرة أصحاب الاتجاه الحداثي على السلطة؛ بدأت الإجراءات بصورة أكثر حزماً تجاه هذه العادة السيئة واعتبارها عملاً لا أخلاقياً يناقض الشرف.

القضاء على العبودية

إذا كان بعض المؤرخين يرى أن التدابير التي مارسها الأوربيون لإلغاء الرقيق تمثل انتصاراً للإحسان على المصلحة الشخصية؛ فإن غيرهم يرى أن نهاية تجارة الرقيق كانت إحدى تدابير التجارة الحرة، وأن نهاية الاسترقاق لم تأتِ إلا عندما صار سكر جزر الهند الغربية الذي كان ينتجه الرقيق غير مربح.

أما بالنسبة لأصحاب حركة الإلغاء، فقد كان توجههم الإنساني انتقائيَّ الطابع؛ بل كان الخطاب الأخلاقي لحركة الإلغاء، إلى حد ما، غطاءً لمصالح اقتصادية حقيقية على أرض الواقع.
تتبع كوامي أبياه قضية العبودية والإجراءات القانونية التي اتخذها البريطانيون للحد منها، والحوار الاجتماعي حول أخلاقية استرقاق البشر بعضهم بعضاً ومعاناة الزنوج المستعبدين في أميركا، والوصول إلى ميثاق الشرف الذي يقضي بالاحترام الإنساني.

حروب على المرأة

يفند الكتاب اتجاه معظم مواثيق الشرف اتجاهاً "ذكورياً"، مشيراً إلى مصطلح "شرف المرأة" الذي يفرض أن العار يلحق بالأسرة، حين تمارس إحدى فتياتها الجنس قبل الزواج، وهو ما يترتب عليه إجراءات تعسفية، أو حيل اجتماعية لإصلاح ما أفسدته الفتاة في التفريط بـ "شرفها". أما الفتى الشريك في الحادث نفسه، فإنه لا يقع على عاتقه أيّ شيء من تلك الأعباء الاجتماعية أو القانونية! ففي معظم المجتمعات تتم تسوية الأمر بعملية "زواج إصلاحي" لتفادي الفضيحة، بل إنه في بعض المجتمعات مثل جزيرة "صقلية" تسقط جرائم الخطف والاغتصاب إذا تزوج اللص الخاطف الفتاة المغتصبة، وفقاً للقانون!

تظل هناك محاولات لمقاومة هذا التصور الذكوري المنحرف عن الشرف، والقائم إلى اليوم، كما حدث في تلك القصة التي أوردها المؤلف عن فتاة من إحدى قرى صقلية في السابعة عشرة من عمرها تدعى "فرانكا فيولا" تعرضت للخطف والاغتصاب على يد محتال يدعى "فيليبو ميلوديا"، عاونه في اغتصابها مجموعة من أصدقائه. كان "ميلوديا" خبيراً بالقانون الجنائي في البلاد، وملتزماً بميثاق "الشرف" السائد جيداً؛ إذ طلب تسوية الأمر بالزواج من الفتاة التي طالما تمنعت عنه سابقاً، ثم هي الآن قد أصبحت فريسته المنهارة.

كانت المفاجأة أن رفضت الفتاة عرض الزواج، وأصرت على أن توجه له تهمة اغتصابها. وتحمّلت أسرتها حرمانهم من مخالطة الناس وفقدان الاحترام الذي يكون دومًا ثمن الخروج عن مواثيق الشرف، ولأنه تحدَّى الميثاق، تعرض والدُها لتهديدات بالقتل، كما أُشعلت النيران في بعض ممتلكاتهم.

استمرت الدعوة القضائية، وألُقي القبض بالفعل على "ميلوديا" وسبعة من المتواطئين معه. مرت ثلاث سنوات، تزوجت بعدها الآنسة "فيولا" من صديقها المخلص وخطيبها "جوسيبي"، وفي حفل الزفاف، كان يحمل بندقية لحمايتهما!

... وهكذا يستمر الصراع من أجل الكرامة الإنسانية.

(كاتب مصري)

المساهمون