قضايا الحوكمة ومكافحة الفساد في السودان

قضايا الحوكمة ومكافحة الفساد في السودان

21 يونيو 2020
+ الخط -
على الرغم من أن الثورة السودانية قد أفلحت في تغيير النظام السياسي وإزاحة الحكم الاستبدادي والكليبتوقراسي، بقيادة الرئيس المعزول عمر البشير، إلا أنها لم تفلح بذات القدر في تعزيز ممارسة الحكم في السودان.

فممارسة الحكم ما زالت قاصرة نسبة لعوامل عديدة أهمها الضعف التنظيمي الذي ينعكس في عدم قدرة مؤسسات الدولة على إنفاذ حكم القانون والالتزام بالقرارات والوعود المبذولة. فقد ورثت الحكومة الانتقالية من النظام السابق مؤسسات حكومية مترهلة وضعيفة من الناحية التنظيمية والهيكلية.

أيضاً تدخل القيادة العسكرية في صنع السياسات العامة وإمساك الجيش بالعديد من الملفات الاستراتيجية كالسلام، ومكافحة الفساد، والطوارئ الاقتصادية، والاستجابة السريعة لجائحة كورونا، الأمر الذي قلص من سلطات الجهاز التنفيذي، وبالتالي قدرته على صياغة وتنفيذ سياسات عامة تتسق ومعايير الحكم الرشيد.

كذلك، فإنّ افتقار الجهاز البيروقراطي للكفاءات الوطنية نتيجة لسياسة التمكين التي تبناها النظام السابق، والتي استندت إلى تقديم الولاء السياسي في التعيينات الحكومية، قد ساهم أيضاً في تجريد جهاز الخدمة المدنية من الكفاءات الإدارية القادرة علي ترجمة السياسات العامة لبرامج ومشاريع تنموية ناجحة. كل هذه العوامل مازالت تعرقل جهود الحكومة الانتقالية في تعزيز الحكم الرشيد واحتواء الفساد.


يتجلّى الفساد في سودان ما بعد الثورة في ضعف آليات المساءلة الحكومية، (Government Accountability Mechanisms) فوفقاً لمقياس الفساد العالمي للعام 2019 الصادر عن منظمة "الشفافية" الدولية، يعتقد 47% من المواطنين الذين شملهم الاستطلاع أنّ الفساد متوطن في مؤسسات الدولة. اختلال نظام الضوابط والتوازنات المتمثل في غياب المجلس التشريعي الانتقالي منح القيادة السياسية سلطة غير مقيدة في كل ما يتعلق بالجوانب التشريعية والتنفيذية. كما أنّ غياب المفوضيات المستقلة والتي نصت عليها الوثيقة الدستورية، واستبدالها بلجان ومجالس مسيسة، كالمجلس الأعلى للسلام ولجنة تفكيك التمكين ومكافحة الفساد واسترداد الأموال، والتي تضم عضويتها قيادات من المجلس العسكري و"قوى إعلان الحرية والتغيير"، قد ساهم في استئثار القيادة السياسية المطلق بالسلطة، وهذا أول مداخل الفساد المؤسسي في سودان ما بعد الثورة.

غياب المساءلة الحكومية يتضح في هيمنة القيادة السياسية منذ العهد السابق على مقاليد الهيئات الرقابية في جهاز الدولة، والتي تضم المراجع العام، والقضاء، وديوان المظالم العامة، حيث تعاني هذه المؤسسات من التأثير السياسي المتزايد عليها إضافة للضعف التنظيمي وشح الموارد المالية. فعلى الرغم من أنّ القانون يكفل استقلالية ديوان المراجع العام كما نص عليه الفصل الثاني من قانون ديوان المراجعة القومي للعام 2015، إلا أنه في الواقع كان تحت تأثير السلطة السياسية التي تتحكّم في الموارد المالية المخصصة للديوان. هذا الأمر ساهم في تقليل فاعلية الدور الرقابي لهذه المؤسسة، والذي يبرز في عدم قدرة المراجع العام على التدقيق في الحسابات المالية لأغلب الشركات المملوكة للدولة.

في معرض اجتماع اللجنة الاقتصادية الطارئة، والذي أقيم أخيراً في الخرطوم، أشار د. آدم الحريكة، مستشار رئيس الوزراء، إلى "امتلاك الدولة لحوالي 650 شركة حكومية، تتوزع بين الجهاز التنفيذي والمؤسسة العسكرية، تساهم فقط 12 شركة منها في إيرادات وزارة المالية. أما بقية الشركات فتحتفظ بإيراداتها أو يتم توجيهها لجهات أخرى تابعة للمؤسسة العسكرية أو الشبكة التنظيمية لـ(الإخوان المسلمين)".

بالتأكيد فإنه من المبكر تقييم أداء ديوان المراجع العام في الفترة الانتقالية، ولكن ربما يجب أن نبقي سقف التوقعات في مداه المنخفض. فبالرغم من أن المراجع العام قد التقى بالمجلس التشريعي الانتقالي، ممثلاً في مجلس الوزراء والمجلس السيادي، إلا أنه لم يتم الكشف عن أي معلومات تتعلق بالأداء المالي لمؤسسات الدولة.

نفس الأمر ينطبق على السلطة القضائية، فرغماً عن استقلالية القضاء وفقاً للدستور الانتقالي للعام 2005، إلا أنه لم يكن كذلك في الواقع خلال العهد السابق. فقد تمكن نظام الإسلام السياسي من الهيمنة على السلطة القضائية وفقاً للمادة 30 من قانون السلطة القضائية للعام 1986، والذي نص على (تعيين الخبرات)، والذين كانوا من الموالين للحركة الإسلامية، في نفس الوقت الذي تم فيه إحالة المئات من القضاة للصالح العام.

عقب ثورة ديسمبر/ كانون الأول، عيّنت الحكومة الانتقالية أول امرأة على رأس السلطة القضائية، بعد أن تم ترشيحها من قبل مجلس القضاء الأعلى. ولكن، وبعد قرابة العام على الإعلان الدستوري والاتفاق السياسي، لم تراوح الإصلاحات المأمولة في الجهاز القضائي مكانها.

أما ديوان المظالم العامة (Ombudsman)، والمنوط به التحقيق في الادعاءات المتعلقة بفساد القطاع العام، فهناك قدر ضئيل من المعلومات المتاحة حول الموارد المالية والفنية التي تسهل قيامه بالدور المطلوب في مراقبة أداء مؤسسات الدولة. كما أن أنشطته وتقاريره ما زالت غير متاحة للمواطنين والإعلام. فديوان المظالم، مثله مثل المؤسسات الحكومية الأخرى، يعاني من نقص في التمويل والقدرة علي تنفيذ حكم القانون. على الرغم من وجود قانون للثراء الحرام، إلا أن الإفصاح عن الأصول المالية لموظفي الدولة تكتنفه السرية، كما لا توجد آلية لضمان امتثال موظفي الخدمة المدنية للقانون.

وضع الفساد في السودان شديد التعقيد حيث إن محفزاته تفوق حجم القيود المبذولة لكبح انتشاره، لدرجة أن النشاطات المتعلقة بالفساد يمكن تصنيفها على أنها مربحة وقليلة المخاطر. وفرة الموارد الطبيعية، مثل الذهب، لا تشكل مصدراً للفساد على مستوى السودان فحسب، ولكن عبر الحدود أيضاً، خاصة عندما يكتسب الفساد الطابع المؤسسي. فوفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة، فقد تم تصدير ما قيمته 4.6 مليارات من الذهب بين عامي 2010-2014 بشكل غير قانوني إلى دولة الإمارات العربية المتحدة. كما أشار آخر تقرير للنزاهة المالية العالمية للعام 2020 الصادر عن السودان، إلى أن التسريب المالي من عائدات التجارة الدولية بين عامي 2012 و2018 يقدر بـ30.9 مليار دولار أميركي.

مصادر الفساد في السودان تتعلق أيضاً بغياب الشفافية حول الإيرادات والمنصرفات الحكومية، ووجود سلسلة من الإجراءات الإدارية التي تعيق التجارة الحرة، كما أن تطبيق نظام ضرائب غير عادل يخضع لسلطات تقديرية على المستوي المحلي، يفتح الباب واسعاً للرشاوى، واختلاس المال العام، واستغلال السلطة، كما أنه يوفر حماية للمتهربين من الضرائب، خاصة الشركات الكبيرة. أيضاً، التأثير السياسي على جهاز الخدمة المدنية، يمهّد الطريق نحو المحسوبية في الإجراءات المتبعة لتعيين، وإعادة تعيين، وترقية الموظفين في الجهاز البيروقراطي للدولة والذي من المفترض أن يقوم على الكفاءة.

عطفاً على ما سبق، فإنّ جهود الحد من الفساد في السودان لا يجب أن تقتصر على إنشاء مفوضية مستقلة لمكافحة الفساد. بل يجب التأكيد على إنفاذ معايير النزاهة والمساءلة في كامل مؤسسات الدولة، وهو ما لن يتأتى قبل استكمال هياكل السلطة بتكوين مجلس تشريعي انتقالي مستقل عن السلطة التنفيذية، وتعيين ولاة الولايات والمجالس الولائية، لكي ما يتمكن المواطنون من مساءلة الحكومة ومتابعة تصرف مؤسسات الدولة في المال العام خلال فترة التحول الديمقراطي وما بعدها.

غياب المعلومات الوافية حول أداء المؤسسات الحكومية يتطلب إجراء دراسات لتحليل مصادر الفساد، لا سيما إدارة المشتريات العامة والشركات المملوكة للدولة، وقطاع التعدين. كما أن تسهيل انسياب المعلومات المتعلقة بالمنصرفات والإيرادات الحكومية يسهل من عمل الصحافة الاستقصائية ومنظمات المجتمع المدني المعنية بالحوكمة ومكافحة الفساد. أخيراً فالشراكة ما بين القطاع العام والخاص تساهم في تقليل احتياج القطاع الخاص للتدخل في السياسة من أجل توجيه السياسات العامة وخلق علاقات مشبوهة لمراكمة الأرباح.

ختاماً، الحد من الفساد في السودان لن يحدث بين ليلة وضحاها، بل هو عملية مستمرة لبناء منظومة متشابكة تعمل على محاصرة مصادر الفساد في الدولة والمجتمع على حد سواء. لذلك، فمن المهم العمل على خلق شراكة استراتيجية بين الدولة والمجتمع المدني لتطوير الحوكمة الديمقراطية وخلق مناخ محفز للنزاهة، والشفافية، والمساءلة.