في معنى تمزيق الأوراق

في معنى تمزيق الأوراق

10 فبراير 2020

بيلوسي تمزّق نسختها من خطاب ترامب بالكونغرس (4/2/2020/فرانس برس)

+ الخط -
أعلن الاتحاد البرلماني العربي رفض "صفقة القرن"، والتمسّك بالحقوق الفلسطينية. وفي الاجتماع الطارئ الذي استضافته عمّان، قال رئيس مجلس الأمة الكويتي، مرزوق الغانم، إن مكان "صفقة القرن" هو مزبلة التاريخ. وفي مشهد مؤثر، أطاح الغانم بوثيقة "الصفقة"، وهو يلقي كلمته أمام الاجتماع، أول من أمس. وفي واشنطن، مزّقت رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، نسختها من أوراق خطاب الاتحاد الذي ألقاه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أمام الكونغرس، بعد أن انتهى من إلقائه. وقبل عامين، أطاح وزير الخارجية المصري، سامح شكري، ميكروفون قناة الجزيرة، في مؤتمر صحفي.
والحقيقة أن ذلك النمط من السلوك الاحتجاجي التعبيري ليس جديداً، خصوصاً في سياق القضايا والصراعات ذات العمق التاريخي، والمرتبطة بقناعات الشعوب، سواء كانت موروثات عقائدية أو سياسية، ففي بلداننا العربية، التظاهرات ضد إسرائيل مصحوبة دائماً بإحراق العلم الإسرائيلي أو الأميركي. وفي كل مكان في العالم، عندما تخرج تظاهرات احتجاجية ضد الحكام والمسؤولين يتم تمزيق اللافتات الدعائية وإحراق صورهم أو تحطيم تماثيلهم. ويتذكّر العالم جيداً كيف كان إسقاط صورة ضخمة لصدام حسين في أكبر ميادين العاصمة بغداد إعلاناً بسقوط النظام واحتلال العراق.
طبيعي أن يصدر هذا السلوك "الثوري" من الشعوب المحتجة، أو الأحزاب المعارضة للسلطة، فالاحتجاج والتعبير عن الغضب ليس إلا تعويضاً رمزياً عن افتقاد القوة والأدوات اللازمة للتغيير، وتوجيه رسالة مطالبة واستدعاء للسلطة، صاحبة القوة التي تمتلك أدوات الحركة، لتقوم بالتحرّك المطلوب شعبياً. وهنا يصبح منطقياً السؤال عن دواعي قيام مسؤول أو شخص في منصب عام بذلك السلوك الاحتجاجي الذي يقوم به عادة الضعفاء والمستضعفون ممن لا يملكون سلطة، ولا أداة تغيير الموقف المرفوض. وحين لا يصدر الفعل الاحتجاجي من أفراد أو منظمات أهلية أو حتى أحزاب سياسية، بل من مسؤولين رسميين ينتمون لإحدى السلطات الثلاث في الدولة، فإن المعنى الوحيد لذلك أن صاحب هذا التصرّف لا يملك من أمره شيئاً، ولا يختلف في ضعفه كثيراً عن المواطنين العاديين المغلوبين على أمرهم.
وحين يقول رئيس البرلمان الكويتي إنه يتحدث "نيابة عن كلّ الشعوب العربية والإسلامية، وكلّ شرفاء وأحرار العالم"، فهو بذلك لا يتحدّث باسم هؤلاء، بقدر ما يصطفّ إلى جانبهم في تبني موقف خطابي و"قولي"، ما يؤكد الاصطفاف معهم أيضاً في العجز عن اتخاذ موقف عملي. وينطبق التوصيف نفسه على تصرّف نانسي بيلوسي تجاه ترامب، فتمزيقها أوراق خطابه لم يغير شيئاً في المشهد الأميركي، ولم يزد عن كونه رد فعل انفعاليا غاضبا من إحراج ترامب بيلوسي بعدم مصافحتها، وهو إحراج رمزي وشخصي، قبيل الهزيمة السياسية التي تكبّدتها بيلوسي والنواب الديمقراطيون بالفشل في إدانة ترامب وعزله من الرئاسة.
صحيحٌ أن بيلوسي والغانم ورؤساء البرلمانات العربية يمثلون مؤسساتٍ شعبية، لكنها تظل جزءاً من المنظومة السياسية. وإذا كان الفصل بين السلطات قائما ومُفعّلا في الولايات المتحدة، إلى حد التطبيق الحرفي الدقيق للفرق في الصلاحيات بين مجلسي الشيوخ والنواب، فالوضع مختلف عربياً، فالبرلمانيون طرف فاعل في الطبقة الحاكمة، وجزء من السلطة الفعلية، إن لم يكن بشكل مؤسسي، فبحكم الواقع والتاريخ والإرث السياسي الراسخ.
ولم نسمع أن برلماناً عربياً استدعى وزير خارجيته أو طالب حكومته بإعلان رفض رسمي لـ"صفقة القرن"، أو حتى قطع العلاقات مع الكونغرس الأميركي وبرلمان أي دولة توافق على الصفقة. قد لا تملك الشعوب سوى أصواتها وانفعالاتها، لذا تضطر إلى التظاهر أو تمزيق الأوراق وحرق الصور والأعلام. أما أن يلجأ المسؤولون والساسة وطبقة الحكم إلى تلك المظاهر الاحتجاجية، على "صفقة القرن" أو غيرها، فالمعنى المباشر لذلك أن يبشّر ترامب ونتنياهو بطول سلامة.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.