في كل أسبوع يوم جمعة

في كل أسبوع يوم جمعة

23 يونيو 2020
+ الخط -
ساقتني ظروف البقاء في المنزل مدّة طويلة، وتقنين فترات الخروج، اتِّباعًا لتدابير الوقاية، على الرغم من أن المنطقة التي أعيش فيها تعتبر الجزيرة الوحيدة التي لم يدخلها فيروس كورونا، بحسب وصف وسائل الإعلام، إلى الجلوس ساعات عدّة متواصلة؛ لمتابعة حلقات متتالية، لمسلسلٍ من عشر حلقات، ومصنَّف من مسلسلات التشويق والإثارة. عُرض المسلسل على إحدى المنصَّات الإلكترونية. وكان المشاهدون ينتظرون نهاية كل أسبوع؛ لمشاهدة الحلقة الجديدة، بلهفةٍ وترقُّب، فالأحداث تحبس الأنفاس. والمسلسل مأخوذٌ عن رواية تحمل الاسم نفسه للكاتب إبراهيم عبد المجيد، ولكن كُتَّاب السيناريو ومعالجيه أضافوا مزيدًا من الثغرات التكنولوجية؛ لإيجاد المخارج الدرامية الشيِّقة، بعيدًا عن السرد الطويل الممل.
فكرة المسلسل، أو الرواية، تطرح عدّة قضايا، أوَّلُها تعرُّض الفتيات الفقيرات للإغواء من رجال مشهورين، ذوي أسماء لامعة، مثل الذي تعرّضت له نور من كاتب شهير، وكانت الفتاة الفقيرة معجبة بكتبه ورواياته، والكاريزما المحيطة به. وحين تعرَّفتْ به وجهًا لوجه، وقعت في شراكه، وتزوّجها عُرفيًّا؛ فقادها إلى طريق الانحراف، ولذلك قرّرتْ أن تنتقم منه. وهناك قضية أخرى، تحرُّش أستاذ جامعي بشقيقتها، واستغلاله فضيحة الأخت الكبرى؛ لكي يوقع بالصغيرة، وعندما حاولت صدَّه، ادَّعى، كالعادة، أنها قد عرضت نفسها عليه، في حرَم الجامعة.
هاتان القضيتان اللتان تتعرَّض لهما بنات في مجتمعاتنا تعتبران من قضايا باتت منتشرة، ولكن غير العادي انتقام الضحية الأولى، نور، ممَّن دمَّروا حياتها، وحياة أسرتها، بوحشية، وبالاستعانة بشخصٍ يعاني من تخلُّف عقليّ، يجد في القتل، وتحويل الجثث إلى أشلاء، متعة كبيرة.
تبدأ أحداث المسلسل بالتعاطُف مع الفتاة التي تعرّضت للتغرير، وإن كنَّا لا بدَّ من أن نلقي باللائمة عليها، أيضًا، فكان من الممكن ألا تنجرَّ وراء المظاهر، وتستغل ثقة والديها البسيطين الفقيرين بها، ولكنها تدفع ثمن ذلك غاليًا، وهو الفضيحة، ثم تحوُّلها قاتلة. ولكن سرعان ما يتعاطف الجمهور معها، ومع الشاب المريض عقليًّا، والذي يقوم بالقتل، والتمثيل بالجثث؛ بناءً على كلمة سرٍّ مشتركة بينهما، فهذا الشابُّ هو ضحية والدته التي كانت تحبسه في غرفته؛ لأنها تخجل من أن يعرف الناس أن لديها طفلًا غير سويّ، ما فاقم من حالته، ولكن الجمهور تعاطف معه، وهو قاتل يقتل ببشاعة، ويرى تقطيع جثَّة إنسان مثل تقطيع دجاجة صغيرة، في مطبخ دافئ.
متلازمة استوكهولم مرَضية، عُرفت في الطبِّ النَّفسي، ويمكنها أن تفسِّر هذا التعاطف من الجمهور مع قاتلين، إلى درجة أن مشهد القبض عليهما، في اللحظات الأخيرة من المسلسل، وبعد ارتكابهما خمس جرائم قتل شنيعة، قد أصبح "تريند" في مواقع السوشيال ميديا. ولا يمكن أن تفسَّر هذه الحالة إلا بأن الجمهور العربي قد أُصيب فعلًا بهذه المتلازمة، والتي بدأ إطلاقها على حالة التعاطُف بين الجاني والمجنيِّ عليه، بعد حادثة حقيقية وقعت في عام 1973 في استوكهولم، حيث سطا لصوص على بنك، وأوقعوا الرهائن الذين تضامنوا مع اللصوص، ودافعوا عنهم.
دخل كاتب الرواية، إبراهيم عبد المجيد، إلى عُشِّ دبابير المجتمع، ولذلك أصيب كلُّ فرد من هذا المجتمع المأزوم والمقهور والمطحون بمتلازمة استوكهولم. وجد الجميع نفسه، بلا استثناء، يتعاطف مع قاتلةٍ كانت ضحيَّة، على الرغم من أن الجريمة لا تُبرَّر، كما الخيانة، ولكن العشَّ بأكمله تضامن مع القاتلة التي أصبحت بطلة، والتي حوَّلتها نظرةُ المجتمع لها إلى مريضة، بحالة جنونيَّة، بحيث لا يطرف لها جفن، حين تقتل، وتُلقي بأشلاءٍ جُمعت في أكياس سوداء، في مياه النيل، ثم تمارس حياتها ببساطة.
الخلاصة أنَّ الرواية التي حُوّلت إلى مسلسل تستحق وقفة أمام ظاهرة نفسيَّة تُصيب المجتمع الموغل في الهبوط إلى الحضيض، فهو يقلب الحقائق، ولا يطالب بإعدام القاتل، ويترحَّم على المنحرف والشاذّ، ويصبح فريسةً يسهل التلاعب بها، وهذه مصيبة، بل كارثة، لا يجب السكوت على المضيِّ فيها.
avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.