في تفاهة تهمة الارتزاق وتهافتها

في تفاهة تهمة الارتزاق وتهافتها

03 يوليو 2017
+ الخط -
على هامش أزمة الخليج الحالية بين قطر ومحور السعودية والإمارات والبحرين، أو ربما في متنها العريض، وفي المواجهة الإعلامية بالذات، ولا سيما على جبهة "تويتر"، برزت فكرة مركزية في المحاججة لدى المحور المذكور، مفادها أنّ كل من يدافع عن قطر إنما هو مرتزق ومأجور وعميل، أو ما جرى مجرى هذه الصفات. تحاول السطور التالية تعقّب هذه الفكرة وتقصّي بعض أصولها، من غير الزعم بالإحاطة بكل جذورها. وهي فكرة قد تصلح حالة دراسية يُستفاد منها في وصف أعراض وأمراض وتعيين دلالاتها. 

لا يتصوّر مطلقو وصف الارتزاق ولا يصدّقون أن المرء قد يكون صاحب رأي حرّ وموقف مستقل في هذه الحياة، من غير أن يكون بالضرورة مرتزقاً أو مأجوراً قبض ثمن رأيه وموقفه.

وقد لا تكون التهمة إياها نابعة من سوء نيّة أو مجرد رغبة في الإيذاء، بل ربما يكون في الأمر شيئاً من الإسقاط. ففي بلدان تقوم على ثقافة "السمع والطاعة" وتُعدّ فيها مخالفة ولي الأمر من الكبائر، ويرتع فيها العسس والأرصاد، ويُجرّم التعاطف وُيحذّر من "التذاكي" (وهذه أغرب تهمة في تاريخ الأنظمة الشمولية)، يغدو معقولاً لمن ترعرع في هذه البيئة البوليسية أن يرتاب في من يتجرأ بإعلان موقف، فيسرع إلى اعتباره مرتزقاً.

وإلى ذلك، ليس كشفاً عظيماً القول إن أنظمة مثل السعودية والإمارات، ولا سيما الأخيرة، لديها استراتيجية إعلامية عريقة في دفع المال لشراء المواقف. فهي زبون دائم لا يكفّ عن التبضّع من أسواق الذمم في مشارق الأرض ومغاربها وفي ما وراء البحار والجزر المجهرية الغاطسة في المحيطات، فضلاً عن استثمارها في "الجوائز" الأدبية والمؤسسات "الثقافية" التي هي ليست أكثر من أقنعة تخفي وراءها نزعة شديدة الرجعية للهيمنة. فإذا كان الأمر كذلك، وأغلب الظن أنه كذلك، بات لدينا سبب آخر لفهم الهوس بوصم الرأي المختلف مع هذه الأنظمة بأن صاحبه مستأجر. فهنا يشتغل الإسقاط بسخاء أيضاً.

لكن أكثر من ذلك، تهمة الارتزاق قد تستطيل أيضاً لتطاول حتى من يعمل عملاً عادياً غير ذي صلة بالإعلام والثقافة. فهذا أيضاً يُمَنّ عليه بأنه "يعمل لدينا". فكأنّ العامل هنا لا يكسب رزقاً حلالاً جزاءً لجهده وعرقه ونبض قلبه وخلاصة تجاربه، بل يحصل على نوع من الصدقة من صاحب العمل. وإذا كان الاشتراكيون الأوائل نعوا على الرأسمالية تسليعها العمل المأجور وأدرجوه في باب العبودية، فصاحب العمل الذي يمنّ على العامل الأجير عنده يريد أن يذهب في العبودية شوطاً أبعد، فيوحي بأن "العمل" الوحيد العادل، وفق هذا المنظور الضرير، هو العمل من غير أجر، أي الرقّ الصريح.

وأنت لستَ تحتاج أن تكون ماركسياً لتعرف أن "فائض القيمة" لا يتحقق من غير عمل مأجور وطبقة عاملة تستطيع مراكمة رأس المال في خزائن صاحب العمل. بكلمات أخرى، المنّ على العامل في الخليج بأنه "يعمل لدينا" فيه الكثير من التناقض، ناهيك عن أنه يغرف من معين عتيق سابق على الرأسمالية والاشتراكية والإقطاع حتى، تضرب جذوره في صحراء الجزيرة العربية في الزمن الجاهلي الجميل.

وهذا السلوك، أي اعتبار توظيف الناس منّة وفضلاً من صاحب العمل والإمعان في إذلالهم، لم يأتِ مصادفة، بل اشتغلت عليه الحكومات الخليجية منذ تأسيسها وحرسته بأشفار عيونها إلى يومنا هذا. ذلك أن "نظام الكفيل" هو ما يعزّز السلوك المذكور ويضفي عليه صفة العاديّة. وهو نظام تتواطأ فيه الحكومة مع مواطنها المفترض. فلما كانت الحكومة تحوز سلطة قمع طاغية لا شريك لها فيها مع أحد، جرى تصريف فائض السلطة هذا ومنحه لمواطنها ليمارسه على العامل الوافد، من باب "خلّي شويّة عليّا وخلّي شويّة عليك". والحكومة إذ تتولى رعاية هيراركية الاستغلال هذه، إنما تخاطب أحطّ الغرائز في البشر، أي غريزة الهيمنة، من غير أن تدري ربما أن ذلك يدمّر أرواح مواطنيها عندما يمنحهم سلطة هائلة للاضطهاد، قبل أن يؤذي الضحية. فإذا أضفنا التسهيلات المالية "والمكرمات" التي تعطيها الحكومة لمواطنيها، لشراء صمتهم على استيلائها على البلد، نكون حيال رشوة تكتسب فرادتها من كونها مادية روحية.

ولهذا كلّه، عندما تصدر تهمة الارتزاق عن سفهاء أنظمة الريع والبيع والبيعة والسمع والطاعة والتطويع، فذلك يستدعي مزيجاً من القهقهة والإشفاق، معاً وفي آن.

AD28D8DD-82CD-4359-9B77-8FE9B653247D
AD28D8DD-82CD-4359-9B77-8FE9B653247D
هشام غانم

كاتب عربي مقيم في الأردن، كتب في عدة صحف ومواقع إلكترونية وساهم في تأسيس وتحرير بعضها. عبرتُ منتصف العمر ولا زال لديّ توق جارف للحياة. أحاول، أسعى، أتعلّم. منشغل انشغالاً أزلياً في عقد تسوية مُرضية بين قلبي وعقلي. ليس لي قضية سوى الخروج من هذه الحياة بأقل الخسائر، ومساعدة الخاسرين على الصبر على خساراتهم. ولكنّه ليس صبراً عاجزاً، بل صبر استراتيجي، أو هكذا أعزّي نفسي!

هشام غانم