28 اغسطس 2024
في الظاهرة الإسلامية
لم يَسِر تاريخ الظاهرة الإسلامية في خطٍ مستقيم، وإنما مرّ بمحطّات مهمة، ومنحنيات كبيرة، عديدة، كان لها أكبر الأثر في بلورة الرؤى المتباينة التي تمثّل مدارس الحالة الإسلامية، بتنويعاتها المتعدّدة، التي خرجت كلٌ على حِدة، في سياق تاريخي حمل ظروفاً موضوعية بعينها، أَلقت بظلالها على التكوين الفكري لتلك المدارس، ومدى نزوعها إلى الاعتدال أو جنوحها إلى التطرّف، فالنظر إلى الإسلاميين كتلة صمّاء، أو كرةً مصمتة، خطأ منهجي كبير.
ظهرت، في مطلع القرن العشرين، المدرسة الفكرية الحضارية، أو "الإسلام الحضاري" التي أسسّها الإمام محمد عبده، وامتداداتها اللاحقة مثل رشيد رضا، ومالك بن نبي، وارتكزت رؤية هذه المدرسة على أن مشكلة العالم الإسلامي فكرية – حضارية، في المقام الأول، قبل أن تكون سياسية، فالتخلّف السياسي عَرَض لمرض، هو التخلّف الحضاري المتمثّل في انتشار الأميّة، والتخلّف العلمي، والمفاهيم الدينية الخاطئة، والخرافات والخزعبلات، إلى جانب سيادة التقليد وغياب التجديد عن التراث الفقهي، ورأت هذه المدرسة أن الإصلاح يبدأ من أسفل إلى أعلى، بضرورة العمل على آفات المجتمع، وبتقديم الإصلاح الديني والفكري والاجتماعي على الإصلاح السياسي، فمن شأن الإصلاح الاجتماعي تأسيس بُنى اجتماعية وفكرية، قادرة على تهيئة المجتمع للممارسة السياسية الديمقراطية بشكل سليم. بعبارةٍ أخرى، الإصلاح المجتمعي هو الذي يمهّد الطريق أمام الإصلاح السياسي.
قدّمت المدرسة الحضارية نفسها كمحاولة لـ "الإحياء الحضاري" للأمّة الإسلامية، وانصبّ جهدها من أجل رتق "الفتوق الحضارية" في جسد المجتمع، والتي جعلته "قابلاً للاستعمار"، حسب تعبير مالك بن نبي في كتابه الشهير، في حين أنها أغفلت العمل السياسي، أو أرجأته لمرحلة لاحقة.
ثمّ ظهرت بعدها المدرسة الحركية أو"الإسلام الحركي" التي أسسّها حسن البنّا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وارتكزت رؤية هذه المدرسة على أن المشكلة الحقيقية تكمن في الأخطار المحدقة بهوية العالم الإسلامي، ومحاولات تذويبها عبر الصراع بين الوافد والموروث، وموجات التغريب الفكري والثقافي التي تتعرّض لها بلدان العالم الإسلامي. وبعكس نظيرتها السابقة، رأت هذه المدرسة أن طريق الإصلاح يبدأ من أعلى إلى أسفل، عبر أولوية "أسلمة" السلطة، وبنية الدولة، ثمّ المجتمع، من دون النظر قبلها إلى المشكلات الحضارية للمجتمع.
المفارقة التاريخية اللافتة أن المدرسة الحركية تمددت وانتشرت، في حين أن المدرسة الحضارية انكمشت وانحسرت، حتى قال بعضهم إن محمد عبده تقدّم بمشروع إصلاحي فكري، ثمّ جاء حسن البنّا ببنيان حركي ف (قَطعَ الطريق) على مشروع محمد عبده الفكري. بعبارةٍ أخرى، قدّم محمد عبده "فكراً وتنظيراً"، ولم يقدّم "حركة أو تنظيماً"، فجاء حسن البنا فقدّم "حركة وتنظيماً"، ولم يقدّم "فكراً أو تنظيراً".
احتلت الشريعة مركز الثقل في مشروع الإسلام الحركي الذي ظهر بالأساس ردّ فعل على سقوط الخلافة الإسلامية، و"تعطيل" تطبيق الشريعة الإسلامية في بلاد العالم الإسلامي، بعد وقوعها تحت سنابك الاستعمار الأجنبي الذي قام بتغيير البنية القانونية والتشريعية للبلدان الإسلامية.
في المجال الفكري، توقّفت المدرسة الحركية على اختلاف تنويعاتها عند أدبياتها القديمة التي
كُتبت منذ عقود طويلة بيد مؤسسّيها، من دون أي محاولة للتجديد، أو لتنقيح القديم. واقتصر جهدها على تشييد بنيان "تنظيمي" قوي. وحتى في المجال التنظيمي، اكتفت بالآليات القديمة التي اتبعتها في عشرينيات القرن العشرين، وانصبّ مشروعها، بالأساس، على السلطة، واهتمّ اهتماماً كبيراً بكيفية الوصول إليها، وبالدولة و"أسلمتها"وكيفية اختراق مؤسساتها، ولم يعبأ الإسلام الحركي كثيراً بالمجتمع، والمشكلات التي يعانيها، إلا الاهتمام بالعمل الخيري، وتسخيره من أجل "التخديم" على النشاط السياسي في مواسم الانتخابات، كما أنه لم يهتّم بالحقوق والحريات إلا نادراً.
بعد ثورة 25 يناير، وقع الإسلام "الحركي" في أخطاء سياسية وأخلاقية فادحة، نزعت عنه دعاوى "الطهورية" السياسية، وجرّدته من نزعته الأخلاقية، ما أفقده جزءاً من أرضيته الشعبية من فئة "المتعاطفين" خارج وعائه التنظيمي، كما أنه فشل في تقديم رؤية منهجية لـ"المشروع الإسلامي" الذي ظلّ أسيراً لشعاراتٍ عاطفيةٍ، ولتصورّات تاريخية عن عصر دولة "الخلافة" الامبراطورية، وهو ما يجعله يواجه في المستقبل تحدّياتٍ وجودية.
وعلى خلفية الصدام الكبير بين النظام الناصري وجماعة الإخوان المسلمين، ظهرت شخصية جدلية من الطراز الأول، هو سيد قطب الذي مثّل، بشخصه وبطرحه، منحنىً بالغ الخطورة في تاريخ الظاهرة الإسلامية، فقد قدّم أطروحةً فكريةً شديدة الخطورة في كتابه الأشهر والأخطر "معالم في الطريق"، قامت بالأساس على أرضية العقيدة، وليس الشريعة، عبر اعتماده مبدأ "الحاكمية"، حيث رأى قطب أن الخلل الذي يعيشه العالم الإسلامي يعود إلى عدم فهم المسلمين العقيدة الإسلامية بشكل صحيح، ما يُحتّم على "الجماعة المؤمنة" القيام بـ "عزلة شعورية"، تقوم على "الاستعلاء الإيماني"عن "الجاهلية" المحيطة بها، وضرورة "المفاصلة" الكاملة عن الأنظمة "الطاغوتية"، من أجل تربية "جيل قرآني"جديد أو"الطليعة المسلمة" لتحمل راية الدين، ولتُعيد الأمّة إلى فهم الإسلام بشكله الصحيح (!).
تكمن الخطورة الشديدة في تلك الأطروحة، في أنها أسبغت على المجتمع، بصورة ضمنية، وصف "الجاهلية"، ما فتح الباب واسعاً أمام كارثة "التكفير"، كما أنها نزعت الشرعية بشكل كامل عن الدولة الوطنية الحديثة، معتمدة مبدأ "الأمميّة" القطبية.
وقد مثّل طرح سيد قطب المنبع الفكري الرئيسي الذي انطلقت منه الجماعات الجهادية التكفيرية المتطرّفة التي ظهرت خلال نصف القرن المنصرم، واتخذت من العنف منهجاً وسبيلاً، فيُعدّ "معالم في الطريق" بمثابة "مانيفيستو" الجماعات التكفيرية، أو ما يُسمى "الإسلام الراديكالي".
الخطاب "القطبي" مثال بارز للخطاب المُغلَق الذي يُمهّد الطريق أمام ممارسة العنف، ويجنح للثنائيات المغلقة مثل (الحق - الباطل) و(الإيمان - الكفر)، وهو وليد مناخٍ مأزومٍ، كما أنه خطاب "محنوي" بامتياز، لم يُولَد إلا في ظروف استثنائية، ولا ينتشر إلا في سياقٍ موضوعي مأزوم مغلق. وبصفة عامة، وُلدت الأفكار المنحرفة والمتطرّفة من رحم السجون، وخرجت تحت وطأة القمع والتعاطي الاستئصالي.
تعامل الإسلاميون "الحركيون" بشكل خاطئ مع طرح قطب، تغلّبت فيه العاطفة على العقل، فلم يتخذوا موقفاً حاسماً تجاه أفكاره، ولم يقوموا بتفكيكها ونقدها جذرياً، عبر تبني قطيعة معرفية كاملة معها، وإنما اتخذوا موقفاً "ملتبساً" تجاهها، بهدف استبقائها كوقود مثالي للحظات "المحنة"، فسردية "المحنة والابتلاء" تستدعي الخطاب "القطبي"، فهما صنوان لا يفترقان.
كان للربيع العربي أثر كبير على الظاهرة الإسلامية، فمن جهة استردّ "الإسلام الحضاري" قدراً كبيراً من اعتباره، بعدما كشفت مرحلة ما بعد سقوط الأنظمة السلطوية، عن حجم التجريف الكبير والتخريب الهائل اللذين ضربا مساحاتٍ مجتمعيةً واسعة، وتجاوزها إلى قطاعات كبيرة من النُخَب، مخلّفاً حالة من الفراغ المدوي.
ومن جهة أخرى، كشف الربيع العربي عن العيوب الهيكلية التي تعاني منها تنظيمات "الإسلام الحركي" منذ نشأتها، وغطّى عليها خطابها الحشدي العاطفي، وتقمّصها دور "الضحيّة" طوال العقود الماضية، والتي تبدأ من الخواء الفكري، وتمرّ بالتمركز حول الذات، وتنتهي بالتضخّم التنظيمي، وهو ما بدا واضحاً في الأداء الباهت والبائس معاً لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، بعد وصولها إلى السلطة، لأول مرة في تاريخها، وهو ما يستلزم دخولها في عملية نقد ذاتي مكثّف، وقيامها بمراجعاتٍ فكريةٍ واسعة، بعدما أثبتت الفترة الأخيرة انتهاء عصر الأنساق الفكرية والتنظيمية المُغلقة.
كما كان للربيع العربي وانفتاح آفاق التغيير السلمي أثر سلبي كبير على "الإسلام الجهادي" المتطرّف، تمثّل في انحساره وانكماشه بشكل كبير، بعدما أثبتت الهبّات والثورات مدى إفلاسه، وبؤسه، وكارثيته، بيْد أن موجة الجزر التي أعقبت موجة المدّ الثوري، وتعثّر مسيرة التحوّل الديمقراطي، وانسداد المجال السياسي، والتعاطي مع الإسلاميين بشكل استئصالي، مَنح تيارالغلوّ والتطرّف قُبلة الحياة، وأعاده إلى المشهد مجدداً، بنسخة أشدّ دموية وأبشع إجراماً ممّا سبقها، ما يؤكد أن الحلول الأمنية وحدها لا تكفي للتعامل الناجع مع الإرهاب، ما لم تصاحبها رؤيةٌ سياسيةٌ، تقوم على انفتاح المجال العام، وفتح أبواب الممارسة الديمقراطية، والمشاركة التعددّية أمام الشباب وإتاحة الفرصة لهم، من أجل بناء مستقبلهم.
ظهرت، في مطلع القرن العشرين، المدرسة الفكرية الحضارية، أو "الإسلام الحضاري" التي أسسّها الإمام محمد عبده، وامتداداتها اللاحقة مثل رشيد رضا، ومالك بن نبي، وارتكزت رؤية هذه المدرسة على أن مشكلة العالم الإسلامي فكرية – حضارية، في المقام الأول، قبل أن تكون سياسية، فالتخلّف السياسي عَرَض لمرض، هو التخلّف الحضاري المتمثّل في انتشار الأميّة، والتخلّف العلمي، والمفاهيم الدينية الخاطئة، والخرافات والخزعبلات، إلى جانب سيادة التقليد وغياب التجديد عن التراث الفقهي، ورأت هذه المدرسة أن الإصلاح يبدأ من أسفل إلى أعلى، بضرورة العمل على آفات المجتمع، وبتقديم الإصلاح الديني والفكري والاجتماعي على الإصلاح السياسي، فمن شأن الإصلاح الاجتماعي تأسيس بُنى اجتماعية وفكرية، قادرة على تهيئة المجتمع للممارسة السياسية الديمقراطية بشكل سليم. بعبارةٍ أخرى، الإصلاح المجتمعي هو الذي يمهّد الطريق أمام الإصلاح السياسي.
قدّمت المدرسة الحضارية نفسها كمحاولة لـ "الإحياء الحضاري" للأمّة الإسلامية، وانصبّ جهدها من أجل رتق "الفتوق الحضارية" في جسد المجتمع، والتي جعلته "قابلاً للاستعمار"، حسب تعبير مالك بن نبي في كتابه الشهير، في حين أنها أغفلت العمل السياسي، أو أرجأته لمرحلة لاحقة.
ثمّ ظهرت بعدها المدرسة الحركية أو"الإسلام الحركي" التي أسسّها حسن البنّا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وارتكزت رؤية هذه المدرسة على أن المشكلة الحقيقية تكمن في الأخطار المحدقة بهوية العالم الإسلامي، ومحاولات تذويبها عبر الصراع بين الوافد والموروث، وموجات التغريب الفكري والثقافي التي تتعرّض لها بلدان العالم الإسلامي. وبعكس نظيرتها السابقة، رأت هذه المدرسة أن طريق الإصلاح يبدأ من أعلى إلى أسفل، عبر أولوية "أسلمة" السلطة، وبنية الدولة، ثمّ المجتمع، من دون النظر قبلها إلى المشكلات الحضارية للمجتمع.
المفارقة التاريخية اللافتة أن المدرسة الحركية تمددت وانتشرت، في حين أن المدرسة الحضارية انكمشت وانحسرت، حتى قال بعضهم إن محمد عبده تقدّم بمشروع إصلاحي فكري، ثمّ جاء حسن البنّا ببنيان حركي ف (قَطعَ الطريق) على مشروع محمد عبده الفكري. بعبارةٍ أخرى، قدّم محمد عبده "فكراً وتنظيراً"، ولم يقدّم "حركة أو تنظيماً"، فجاء حسن البنا فقدّم "حركة وتنظيماً"، ولم يقدّم "فكراً أو تنظيراً".
احتلت الشريعة مركز الثقل في مشروع الإسلام الحركي الذي ظهر بالأساس ردّ فعل على سقوط الخلافة الإسلامية، و"تعطيل" تطبيق الشريعة الإسلامية في بلاد العالم الإسلامي، بعد وقوعها تحت سنابك الاستعمار الأجنبي الذي قام بتغيير البنية القانونية والتشريعية للبلدان الإسلامية.
في المجال الفكري، توقّفت المدرسة الحركية على اختلاف تنويعاتها عند أدبياتها القديمة التي
بعد ثورة 25 يناير، وقع الإسلام "الحركي" في أخطاء سياسية وأخلاقية فادحة، نزعت عنه دعاوى "الطهورية" السياسية، وجرّدته من نزعته الأخلاقية، ما أفقده جزءاً من أرضيته الشعبية من فئة "المتعاطفين" خارج وعائه التنظيمي، كما أنه فشل في تقديم رؤية منهجية لـ"المشروع الإسلامي" الذي ظلّ أسيراً لشعاراتٍ عاطفيةٍ، ولتصورّات تاريخية عن عصر دولة "الخلافة" الامبراطورية، وهو ما يجعله يواجه في المستقبل تحدّياتٍ وجودية.
وعلى خلفية الصدام الكبير بين النظام الناصري وجماعة الإخوان المسلمين، ظهرت شخصية جدلية من الطراز الأول، هو سيد قطب الذي مثّل، بشخصه وبطرحه، منحنىً بالغ الخطورة في تاريخ الظاهرة الإسلامية، فقد قدّم أطروحةً فكريةً شديدة الخطورة في كتابه الأشهر والأخطر "معالم في الطريق"، قامت بالأساس على أرضية العقيدة، وليس الشريعة، عبر اعتماده مبدأ "الحاكمية"، حيث رأى قطب أن الخلل الذي يعيشه العالم الإسلامي يعود إلى عدم فهم المسلمين العقيدة الإسلامية بشكل صحيح، ما يُحتّم على "الجماعة المؤمنة" القيام بـ "عزلة شعورية"، تقوم على "الاستعلاء الإيماني"عن "الجاهلية" المحيطة بها، وضرورة "المفاصلة" الكاملة عن الأنظمة "الطاغوتية"، من أجل تربية "جيل قرآني"جديد أو"الطليعة المسلمة" لتحمل راية الدين، ولتُعيد الأمّة إلى فهم الإسلام بشكله الصحيح (!).
تكمن الخطورة الشديدة في تلك الأطروحة، في أنها أسبغت على المجتمع، بصورة ضمنية، وصف "الجاهلية"، ما فتح الباب واسعاً أمام كارثة "التكفير"، كما أنها نزعت الشرعية بشكل كامل عن الدولة الوطنية الحديثة، معتمدة مبدأ "الأمميّة" القطبية.
وقد مثّل طرح سيد قطب المنبع الفكري الرئيسي الذي انطلقت منه الجماعات الجهادية التكفيرية المتطرّفة التي ظهرت خلال نصف القرن المنصرم، واتخذت من العنف منهجاً وسبيلاً، فيُعدّ "معالم في الطريق" بمثابة "مانيفيستو" الجماعات التكفيرية، أو ما يُسمى "الإسلام الراديكالي".
الخطاب "القطبي" مثال بارز للخطاب المُغلَق الذي يُمهّد الطريق أمام ممارسة العنف، ويجنح للثنائيات المغلقة مثل (الحق - الباطل) و(الإيمان - الكفر)، وهو وليد مناخٍ مأزومٍ، كما أنه خطاب "محنوي" بامتياز، لم يُولَد إلا في ظروف استثنائية، ولا ينتشر إلا في سياقٍ موضوعي مأزوم مغلق. وبصفة عامة، وُلدت الأفكار المنحرفة والمتطرّفة من رحم السجون، وخرجت تحت وطأة القمع والتعاطي الاستئصالي.
تعامل الإسلاميون "الحركيون" بشكل خاطئ مع طرح قطب، تغلّبت فيه العاطفة على العقل، فلم يتخذوا موقفاً حاسماً تجاه أفكاره، ولم يقوموا بتفكيكها ونقدها جذرياً، عبر تبني قطيعة معرفية كاملة معها، وإنما اتخذوا موقفاً "ملتبساً" تجاهها، بهدف استبقائها كوقود مثالي للحظات "المحنة"، فسردية "المحنة والابتلاء" تستدعي الخطاب "القطبي"، فهما صنوان لا يفترقان.
كان للربيع العربي أثر كبير على الظاهرة الإسلامية، فمن جهة استردّ "الإسلام الحضاري" قدراً كبيراً من اعتباره، بعدما كشفت مرحلة ما بعد سقوط الأنظمة السلطوية، عن حجم التجريف الكبير والتخريب الهائل اللذين ضربا مساحاتٍ مجتمعيةً واسعة، وتجاوزها إلى قطاعات كبيرة من النُخَب، مخلّفاً حالة من الفراغ المدوي.
ومن جهة أخرى، كشف الربيع العربي عن العيوب الهيكلية التي تعاني منها تنظيمات "الإسلام الحركي" منذ نشأتها، وغطّى عليها خطابها الحشدي العاطفي، وتقمّصها دور "الضحيّة" طوال العقود الماضية، والتي تبدأ من الخواء الفكري، وتمرّ بالتمركز حول الذات، وتنتهي بالتضخّم التنظيمي، وهو ما بدا واضحاً في الأداء الباهت والبائس معاً لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، بعد وصولها إلى السلطة، لأول مرة في تاريخها، وهو ما يستلزم دخولها في عملية نقد ذاتي مكثّف، وقيامها بمراجعاتٍ فكريةٍ واسعة، بعدما أثبتت الفترة الأخيرة انتهاء عصر الأنساق الفكرية والتنظيمية المُغلقة.
كما كان للربيع العربي وانفتاح آفاق التغيير السلمي أثر سلبي كبير على "الإسلام الجهادي" المتطرّف، تمثّل في انحساره وانكماشه بشكل كبير، بعدما أثبتت الهبّات والثورات مدى إفلاسه، وبؤسه، وكارثيته، بيْد أن موجة الجزر التي أعقبت موجة المدّ الثوري، وتعثّر مسيرة التحوّل الديمقراطي، وانسداد المجال السياسي، والتعاطي مع الإسلاميين بشكل استئصالي، مَنح تيارالغلوّ والتطرّف قُبلة الحياة، وأعاده إلى المشهد مجدداً، بنسخة أشدّ دموية وأبشع إجراماً ممّا سبقها، ما يؤكد أن الحلول الأمنية وحدها لا تكفي للتعامل الناجع مع الإرهاب، ما لم تصاحبها رؤيةٌ سياسيةٌ، تقوم على انفتاح المجال العام، وفتح أبواب الممارسة الديمقراطية، والمشاركة التعددّية أمام الشباب وإتاحة الفرصة لهم، من أجل بناء مستقبلهم.