في البدء كان الغليان الصّامت

في البدء كان الغليان الصّامت

17 يناير 2018
+ الخط -
تحديدا للموقع، نحن في بلادٍ يظنّ بعض أهلها أنّها وُلدت من جديدٍ أخيرا، ويظنّ آخرون أنّها تسير نحو حتفها. وما بين الولادة ولُقيا الحتف، تتصارع الأحداث وتتعقّد الأحوال على نغمة "ما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بالِ حكواتيّ".
بعد يومٍ طويل، حان وقتُ إغلاق المكتب والتّوجّه إلى البيت. لقد اضطرّت السّيّدة لبنى أن تُعالج على امتداده ملفّات عالقة واستعجاليّة بمفردها، في وقتٍ تجاوزت فيه مدّة إضراب عدد معتبر من زملائها بالمرفق العموميّ الذي تعمل به الأسبوع، حتّى تعطّل ما تعطّل من مصالح وتراكم المتروك من مهامّ. وطبعا، نفد صبرُ عدد لا بأس به من المواطنين المعنيّين فافتعلوا ما استطاعوا من ضجّة وزادوا طين الأجواء المشحونة بلّة.
في طريق العودة، ها هي ترجعُ إلى السّيّارة، وقد استشاطت غضبا، ترغد وتزبد، وهي لا تصدّق أنّ قتّة اللّفت قد قفزت إلى السّقف، حتّى أحدثت فيه ثقبا واعتلته. ذاك اللّفت ذا الطّعم القاسي المنبوذ، الذي بالكاد تقدر على إقناع أفراد العائلة بتناوله لفرط نفورهم من مذاقه. وما إن أغلقت الباب، وهمّت بمواصلة سيرها، حتّى رنّ هاتفها الخاصّ. كان الاتّصال من ابنها مجد. أخذ يقصّ عليها ما أصابه في اللّيلة السّابقة. وكانت اللّيلة الوحيدة التي سهت أن تتفقّد فيها وصوله إلى البيت مع آخر النّهار، بعد أن فعلت أوّل المساء، فوجدته لا يزال في الكلّيّة.
بينما كان مجد عائدا إلى البيت، مع آخر ساعات نهار اليوم السّابق، اعترض طريقه ستّة أنفار، في عمر الشّباب. عرف من هيئتهم أنّهم يبحثون فيه عن غنيمة. فتعمّد أن لا يدخل معهم في احتدام. قدّر أنّه لا طائل من المخاطرة بالمواجهة؛ ستّة مقابل واحد. ألقى عليهم السّلام، وأخرج ما لديه، كما طلبوا وسلّمه إليهم، ثمّ ذهب كلّ إلى حالِ سبيله، بـ"الحسنى". سار نحو عمارة سكناه على بعد خطوات، فاعترضه الحارس مغتاظا. قال إنّه يعرف أين يسكن أحد أفراد العصابة. ورافق الشّابّ نحو الطّريق الرّئيسيّة، حيثُ وجدا دوريّة شرطة بصدد التّمشيط. حضرت إلى عين المكان، بعد أن بلّغ كثيرون عن سرقات ومداهمات في المنطقة نفسها بنسقٍ جالبٍ للشّكوك، فاق المعتاد. قضى الجميع ساعاتٍ من اللّيل في مركز الشّرطة، والمشتبه بهم يتهاطلون فرادى وجماعات. كان يكفي أن يقع أوّلهم، ويرتبك قليلا حتّى تنفجر منه المعلومات مع أصغر وسيلة ضغطٍ تواجهه.
لم يشأ صاحبنا أن يُقلق في الحينِ راحةَ عائلته التي أرسلته للدّراسة في العاصمة، ما دام لم يُصب بمكروه. وبعد طويل أخذ وردّ، بينه وبين نفسه، في مقامٍ جللٍ، وتحت طائلةِ نفسيّةٍ مندهشة وغير مستوعبة بعد على الأغلب، قرّر أن يتّصل بأخته الكبرى، التي لم تجب عندما رأت الرّقم غير المسجّل لديها، خصوصا وقد تجاوزت السّاعة منتصف اللّيل. عندما استفاقت فزعةً على صوت الرّنين، قفز إلى ذهنها فورا أنّ أخاها قد يكون في مأزق. قرّرت أنّها ستجيب، إذا ما أعاد الاتّصال ثانية. لكنّه لم يفعل.
بعد مرور ساعات، أتت والدة السّارق إلى مركز الشّرطة تجرّ أذيال الخزي والمسكنة. الأمهات هنّ دائما من يجدن أنفسهنّ في مأزقِ التّعامل مع ما لا يمكن التّعامل معه. أنجبت طفلا منذ سبعة عشر عاما، في بلدٍ تحوّل هذه الأيّام لساحة يفلتُ المجرمون فيها من العقاب أكثر ممّا يُحاسبون بأضعافٍ مضاعفة. فاجترأ مع حداثة سنّه على اختصار مسافات ما يتطلّبه الكسب؛ دخل عالم الكبار من بابه الأضيق. لعلّها قصّرت بالتّأكيد في تربيته. ولم تتمكّن بمفردها من الإحاطة بمسؤوليّة ومعنى إنجاب طفل أو أكثر للعالم. ولكن، ماذا يُنتَظر من فتىً تفتّحت عيناهُ على الدّنيا، فرأت العبث يحكم، والفساد يستحكم في كلّ مجال. وقد صار سَلكُ القويم من السّبل عمليّا ضربا من ضروب المجاهدة المستحيلة والنّضال الشّاقّ.
بعد أن استعادَ مجد ممتلكاته، أمضى على ورقةِ استلامٍ وعلى إسقاطٍ لشكايته. سيخرج ابن السبعة عشرة عاما، وقد أفلت للتّوّ من مصيبةٍ محدقة؛ إذ كان سيمضي الخمس سنواتٍ المقبلة من عمره وراء القضبان، جزاءً على ما فعل؛ تلك القضبان التي تجتمع خلفها اليومَ مدارسُ حقيقيّة؛ تكثّف صناعة الشّرور والجريمة، ويتخرّج منها مرتادوها بدرجات امتيازٍ لافتٍ. يراكمون من خلالها، إضافةً إلى خبراتهم الفرديّة المبتدئة، أطنانا من الخبرات الجماعيّة المتنوّعة، المكمّلة ما عندهم والكفيلة بالقضاء كلّيّا على حظوظ استصلاحٍ فعليّ لهم.
قد تكون لدى الفتى فرصةُ ليولد من جديدٍ، الآن. ولكن، هل سيكفي ما عاشه فقط يومًا وليلة، ليثنيه عن سوءِ حمل مخلّفات وضعه المعيش اليوميّ وعن معاودة الكرّة؟
وهل سيكفي تدخّل اليد الإلهيّة بلطفها، ومن ثمَّة مشهدُ إعادة الحقوق إلى أصحابها في الأخير، في سابقةٍ قدريّة، لإخفات صوتِ رغبة مجد في الحصول على شهادته الجامعيّة في أقرب وقتٍ ممكن، والرّحيل بلا رجعة؟.
ED740569-4C5A-48B3-8D21-461463D660A1
ED740569-4C5A-48B3-8D21-461463D660A1
آية الإسلام هنيّة (تونس)
آية الإسلام هنيّة (تونس)