في البحث عن القبيلة

في البحث عن القبيلة

03 مايو 2014
+ الخط -
تطفو على السطح السياسي والثقافي، من حين إلى آخر، ممارسات ذات نفس قبليّ، يعيد إنتاج بنية القبيلة في التفكير وفي السلوك وفي تدبير السلط والولاءات والتحالفات. نلاحظ ذلك بشكل مباشر، في مؤسسات السلطة التي تعود، من حين إلى آخر، إلى "خزان القبيلة" لتنسج من مواده صيغاً جديدة، لاستمرار قوتها ونفوذها ومصالحها، كما نلاحظ ذلك في المؤسسة الحزبية، وفي المؤسسة الاقتصادية، وفي المجال الثقافي والإعلامي، حيث يسود نوع من "العودة المتكررة" إلى خيمة القبيلة وأمانها، ما أن تنشب أزمة ما هنا أو هناك، حتى تطل القبيلة من نوافذ الكرتون الذي يجثم بزخرفه على البلاد، قبل أن تنزل إلى الحياة العامة بالخيل والبارود.
قد يبدو الأمر جديراً بالتحليل النفسي، أو بالمقاربة الأدبية، للكشف عن المفارق والساخر والعجيب في المواقف التي تجعل السياسي يرتدي جبة الفقيه، أو المثقف يتحول إلى شيخ طريقة، أو رئيس حزب يتمخض عن محارب قبلي، لكن الواقع أن حضور القبيلة في حياتنا المعاصرة ليس شيئاً رمزياً، أو ملمحاً خارجياً، أو نزوعاً نوستالجياً يظهر ويختفي، إنه حقيقة تاريخية، مرتبطة إلى حد كبير بتشكل بنية الدولة وتطورها وتقلباتها البسيطة والمعقدة.
وقد تنبه الأستاذ محمد الناصري إلى الأهمية القصوى لهذه الحقيقة التاريخية، فأنجز بحثاً في غاية الطرافة والعمق (لم ينشر بعد)، انطلق فيه من سؤال محير: لماذا تستمر القبيلة حاضرة بقوة في الضفة الجنوبية للمتوسط، بينما اختفت تماماً في الضفة الشمالية، حتى في الأندلس التي استوطنتها القبائل المغربية، في فترات تاريخية مختلفة؟
وقاده هذا التساؤل إلى القيام ببحث دقيق، ليس في النصوص فحسب، ولكن، بالأساس، في المجال الجغرافي، وفي المسارات التاريخية المتشعبة، في محاولةٍ للعثور على أثر القبيلة المفقودة، لفهم الآليات المعقدة التي أدت إلى انمحائها، أو إلى تذويبها في بنياتٍ أخرى، ثم لفهم الظروف التي جعلت من اختفائها عنصر تحول عميقٍ في الدولة، وفي المجتمع، على المستوى الأوروبي، ومن استمرارها عائقاً تاريخياً، أو على الأقل "إشكالية تاريخية" على مستوى منطقتنا الجنوبية.
يتساءل الناصري عما إذا كان لهذا الاختفاء علاقة بالدور العميق الذي لعبته المدن، وصيرورة التمدن في الضفة الشمالية للمتوسط، أم أن الأمر يتعلق، بالإضافة إلى ذلك، بطبيعة الدولة وبمسار تشكلها وتطورها، أم أن له علاقة وطيدة بالبناءين، القانوني والسياسي الذي يحكم المجال.
ولتتبع خيط هذه التساؤلات، رجع الناصري إلى المرحلة الإغريقية، ثم إلى التاريخ المعقد للإمبراطورية الرومانية، محاولاً أن يعثر في العلاقة بين المؤسسة السياسية والمؤسسة الدينية، وفي نشوء الإقطاعية، وما تضمنته من انتقال ملكية الأرض من القبيلة إلى الفرد، وفي الظهور التدريجي "للانتماء الترابي" عوض "الانتماء السلالي"، عن أجوبةٍ تقوده إلى التقاط عناصر المقارنة بين المجال الذي اختفت فيه القبيلة والمجال الذي استقرت فيه.
وبغض النظر عن الظروف التاريخية لكل اضمحلال، أو استمرار، تعلق الأمر بالقدرات الإدماجية لهذا المجتمع أو ذاك، أو بتيارات الهجرة، أو بطبيعة العلاقة بين الدولة ومكوناتها البشرية، فإن ما أثار انتباهي في هذا البحث المثير ما أشار إليه الناصري، بخصوص الفرق بين مجالي الاختفاء والبقاء، والذي يكمن، إذا شئنا الاختزال، في أن الدولة كانت أسبق من القبيلة في الشمال. لذلك، سعت إلى مواجهتها، ثم إلى حلها وإدماجها شرطاً من شروط تشكل الدولة واستقوائها، بينما كانت القبيلة في الجنوب أسبق من الدولة، لذلك، هي التي سعت إلى إدماج الدولة في منطق القبيلة، إلى حد "أصبحت معه القبيلة شكلاً للدولة".
في هذا السياق، يستقر الثلاثي: الدولة ـ القبيلة ـ الزاوية، في مشهدنا المعاصر كبنية عميقة، ما إن تتزعزع البنيات الهشة التي تعتليها، حتى تعود إلى السطح بكل قوتها وعنفها، وبما أنها تصير عند ذلك جسما غريباً، يقتحم زمناً ليس له، ومجالاً ليس له، فإنه لا يجد إلا العنف وسيلة للتعبير عن نفسه. وليس أدل على ذلك، يقول الناصري، مما حدث قبل الربيع العربي وبعده، ألم تخرج القبائل في ليبيا من تحت الأرض، لتقتسم أسلحة الدولة الحديثة، وتشرع في اقتتال عنيف من أجل إنتاج دولة العشائر؟ ألم تتشكل لجان مقاومة السلطة في العراق على أساس قبلي، يقترح التقسيم السلالي، رداً على التقسيم الطائفي أو الفيدرالي الذي أملته أميركا؟ ألم تصبح القبيلة جزءاً من شرعية الملكية الأردنية، ومن خريطة تمثيليتها البرلمانية؟
أسئلة كثيرة يمكن أن نثيرها، ونحن نرى كثيراً من دولنا، تقوم على ثنائيات ملتبسة، ثنائية القبيلة والتيار الديني، أو القبيلة والجيش، أو القبيلة والنفط، ثم ونحن ندرك، بتعبير عبد الله حمودي، أن القبيلة في بلداننا هي "بنية للحكم، كما هي بنية للحكم الذاتي"، فالدولة تأخذ قالب القبيلة عندما تحكم، والقبيلة تأخذ قالب الدولة، عندما تدبر نفسها نيابة عن الدولة، أو في مواجهتها، أو في تحالفٍ معها.
بعد ذلك، يجب ألا نستغرب كثيراً، إذا كان" الخيل والليل والبيداء" صيغتنا المفضلة للصراع من أجل الدولة الحديثة، فنحن مجرد قبيلة تنام وتستفيق. 

 

F9F7206E-7CC0-434F-B4BD-52CD7C8DA5F3
محمد الأشعري

كاتب وشاعر وروائي مغربي، وزير سابق للثقافة والإعلام في المغرب، ونائب سابق في البرلمان. مواليد 1951. ترأس اتحاد كتاب المغرب، له عشرة دواوين، وفازت روايته "القوس والفراشة" بجائزة البوكر العربية.