فيلم "اشتباك" خارج التموضع الفكري... داخل عربة الاعتقال

فيلم "اشتباك" خارج التموضع الفكري... داخل عربة الاعتقال

09 ابريل 2017
يدعونا من خلال كادرالنافذة للنظرمن منظورالإنسانية ووحدة الألم والمصير(فيسبوك)
+ الخط -
يمكننا اعتبار فيلم "اشتباك" على أنه دعوة لمشاهدة إحدى خيباتنا في تحقيق أحد أحلام الربيع العربي، عبر طرح جديد غير مألوف لدينا عادة، إذ إن الفيلم لم يقدم جديدة فقط في معالجة القضية وإنما أيضاً على الصعيد الفني وعلى صعيد المعالجة البصرية بتصويره لكامل المشاهد في موقع مغلق.

لقد فاز الفيلم بثلاث جوائز في مهرجان بلدوليد السينمائي المقام بإسبانيا: جائزة أفضل مخرج جديد لمحمد دياب، وأفضل مدير تصوير لأحمد جبر وجائزة سوسيوجراف (Sociograph) التي تُمنح بناءً على تصويت الجمهور، وقد حاز على تلك الجوائز الثلاث بعد أيام من فوزه بالجائزة الكبرى في "مهرجان الفيلم العربي بفاماك" في فرنسا.

اشتباك فيلم من إخراج خالد ومحمد دياب، ومن إنتاج فرنسي مصري مشترك، يضم في فريق التمثيل النجمة نيللي كريم التي أجادت دور العنصر النسائي في الحبكة، كامرأة مصرية عاملة تُحجز مع طفلها وزوجها، ليكون لها ثقلها في عدة محاور في الفيلم، بالإضافة للممثلين طارق عبد العزيز، وهاني عادل، وأحمد مالك، وأشرف حمدي، ومحمد عبدالعظيم، وجميل برسوم وآخرين.

ولا يمكننا أن نتجاهل وألا نأخذ بعين الاعتبار قوة الفيلم في رصد الذعر وحجم التوتر والإيقاع السريع للقلق الذي ينقل المُشاهد من مشهد لآخر ومن خوف إلى آخر، مقدما ذلك القلق والخوف بأنهما من أهم عناصر واقع تلك الفترة، والتي نجح الفيلم في نقلها سنيمائياً.


الفيلم استطاع أن يرصد زوايا عديدة من الشارع المصري عندما كان الاحتقان يسيطر على المشهد اليومي بشدة، وهي فترة الاحتجاجات التي أعقبت عزل الرئيس السابق محمد مرسي، وحكم المجلس العسكري، وقد جرت الإشارة إلى تلك الفترة أو المرحلة في بداية عرض الفيلم بعبارة تقول "أنّ أحداث الفيلم تدور عقب عزل محمد مرسي من رئاسة الجمهورية في مصر، عندما نزلت جماهير الإخوان المسلمين لإيقاف التحوّل (السلمي) للسلطة"، وكما وُضعت كلمة سلمي بين قوسين كما قيل، للسماح من قبل الرقابة بعرض الفيلم في صالات السينما المصرية.

على الرغم من أن الفيلم لا يميل لصالح طرف ضد طرف آخر أو أنه لا يلوم أو يدين أي عمل من أعمال السلطة المصرية الحالية، لكن في إطار الأجواء السياسية الحالية في مصر فإن أي شيء مغاير لرؤية السلطة حتى ولو حاز صفة الحياد، أو ربما كان فقط منحازا للجوانب الإنسانية، فهو يعد خيانة أو مساهمة في تخريب الوطن.

وإذا قمنا بوضعه داخل الإطار الإنساني، سنرى أن بعض النقاد كتبوا عن الفيلم أنه يميل لتوريط جماعة الإخوان في مأزق الأنانية السياسية، أو تثبيت الصورة النمطية عن التنظيم، بأنهم مجموعات سياسية منظمة بشكل لا يسمح لهم حتى بأن يكونوا في ذات عربة الترحيل مع من لا يملكون صفة عضو بالحركة، وأنهم يبتعدون عن باقي الأفراد ليكونوا مجموعتهم حتى خلال فترة الحجز، لكن في المقابل سنرى أن اشتباك يطرح أغلب شخصياته غير الإسلامية على أنها تعاني من إشكاليات في الوعي، لكن مع الإشارة لما خلف الصورة النمطية عن الشاب الشعبي (البلطجي) الذي يعاني من إشكالية في الوعي على عدة أصعدة.

من المشهد الأول يبدأ التوتر؛ إذ نرى صحافياً أميركياً مصرياً برفقة شاب مصري يعمل كمصور يُوضعان داخل عربة الاعتقال، أو صندوق عربة الاعتقال، فقط لأنهما في الأماكن القريبة من الاحتجاجات الواقعة قريبا منهما، وأنهما يحاولان تغطية ما يحدث، بعد ذلك تنضم إليهما مجموعة من مناهضي حكم الإخوان بعد اعتقالهم من مسيرة تصدح ضد الإخوان وتدعم انتقال السلطة، يوضعون في العربة ذاتها ويبدأون نوعا من الشجار وتخوين للصحافة والصحافيين بوصفهم داعمين للإخوان المسلمين أو متعاملين مع جهات خارجية، رغم وجودهم معاً في عربة الحجز، في وقت كانت فيه القاهرة مشتعلة بالاشتباكات والفوضى.

يبدأ تبلور إحدى رسائل الفيلم حيث تظهر حتمية الاختلاف بين فئات الشعب الواحدة المتمثل بعامة الشارع المصري، أو لربما عفوية حدوث ذلك، مع إصرار الشارع في ذلك الوقت على خلق انقسامات أيديولوجية وخلق خطاب مضاد للآخر.

تنتقل سيارة الاعتقال إلى حي يُعتبر ذا أغلبية إسلامية أو ذا أغلبية مؤيدة لحركة الإخوان المسلمين، يتم هناك اعتقال بعض هؤلاء المتظاهرين ووضعهم في ذات العربة، بعد اشتباك طويل بين رجال الأمن والمتظاهرين، من المثير أن كل الأحداث والاشتباكات حتى تلك اللحظة كانت تُرصد من داخل نافذة وباب سيارة الاعتقال، إلى اللحظة التي يُوضع فيها بعض المعتقلين من جماعة الإخوان داخل السيارة، لنرى أن الصراع انتقل إلى داخل العربة، بينما يتوقف في الخارج.

داخل العربة يتجلى الصراع بشكل أشد خطورة، بين مناهضي حكم الإخوان وعناصر من الحركة وشباب من المناصرين لها، الشيء الذي يؤكد حتمية الصراع بين الإسلاميين ومناهضيهم، ونرى عنصر الأمن في هذا المشهد يلعب دور الوسيط لفض الاشتباك داخل العربة، وذلك برش المياه التي كانت الأداة التي استطاعت إنهاء ذلك المشهد القاسي!

تستمر رحلة المعتقلين داخل السيارة ليوم كامل من القلق والتخمين لسيناريوهات هذا الاعتقال، إذ نرى أن المعتقلين الذين يمثلون فئات المجتمع المصري المختلفة، ينفعلون بكل الأحداث التي تطرق جدران صندوق الحجز من الخارج، ويتم تصوير شوارع مصر في حالة من الفوضى العارمة، ويعرض لنا الفيلم اللحظات التي تشعرنا بضياع الوطن، ذلك الجنون في الخارج كان يُرصد من نافذة العربة الضيقة فيؤثر على المعتقلين فيها بشدة، يدرك المشاهد أن الاشتباكات لم تكن مرتبطة فقط بالصراع بين الحكومة والمتظاهرين، لكنه مرتبط أيضاً بمشاكل المجتمع والتقسيم الأيديولوجي والديني أحياناً أخرى.

تستمر مأساة المعتقلين في صندوق عربة الاعتقال زمنا طويلا، يتجلى فيه الخلط بين الحب والجنون والصراع، هنا يدعونا الفيلم لنرى لحظات التجرد من الانتماء السياسي لصالح الانتماء الإنساني ككائن بشري يعاني المشاكل ذاتها، لكن هل سيتلقى المُشاهد رسالة الفيلم ويحكم بدون التحيز لمنظور أيديولوجي خاص؟، خاصة أن الفيلم مرتبط بفترة تاريخية حافلة بالصراعات السياسية، ولا بد للجمهور من أن يرى ويحكم على الفيلم من خلال منظوره وتفكيره وأيديولوجيته، بالإضافة لحضور عنصر الزمن والتاريخ في تلقي الفيلم.

بالتالي من خلال شريط الفيلم ومجريات الأحداث الدائرة فيه، نرى أن من يعتقد أن ما حصل ضد الإخوان هو انقلاب سيستمر في اعتقاد أن الإخوان ضحية، ومن يعتقد أن ما حصل ثورة فسيرى أن الإخوان كانوا متطرفين على حساب باقي فئات المجتمع، ومن يعتقد أن الحكومة المصرية الحالية افتعلت الاحتجاجات التي قادت لتدخل الجيش وتنفيذ انقلاب على العملية الديمقراطية، سيرى أن الفيلم يصب في مصلحة النظام المصري القائم، لأنه يدعو لحفظ الاستقرار وعدم إدخال البلد في الضياع، وهذا ما يدعي النظام أنه يقوم به، يحفظ الأمن والاستقرار بالمقارنة مع تلك الفترة التاريخية التي عاشتها مصر دون استقرار وأمن!

وبالتالي يعود الفيلم ليصب في دوامة الأيديولوجيات وبنية العقل الخاصة بالمشاهد، والتي يدعوه الفيلم بالأصل للخروج منها، والتفكير خارجها لتتجلى المأساة ربما بإنصاف أكبر.

هنا تكمن معضلة طرح الفيلم، والتي لا تُدين أحد الأطراف المتورطة في هذا الصراع على السلطة، لكنها تدين جميع الأطراف في الوقت ذاته، فيعرض لنا كل الأفكار على أنها غير واعية لمصلحة الوطن بسبب تشبثها بمصالحها الأيديولوجية الخاصة، وأما من هو غير منتمٍ سياسياً فنرى أنه يعاني من انحدار في الوعي أيضاً يبقيه بعيداً عن المنطقية في مسألة التغيير أو الحفاظ على البلد، حيث يجرد الصراع من كل الأيديولوجيات، ويدعونا للنظر إلى المشهد المصري داخل صندوق عربة الاعتقال، باختزال رقعة الصراع وتحجيمها، من داخل العربة إلى خارجها أحياناً أخرى، من خلال كادر النافذة أو الباب، دلالة على الدعوة من أجل النظر من زاوية ومنظور واحد، منظور الإنسانية ووحدة الألم والمصير.

فيمكننا اعتبار أن ذلك الألم هوية جامعة لكل فئات المجتمع إن أردنا الموافقة على صحة التجرد من الأفكار السياسية المسبقة.

المساهمون