فيسبوك ...

فيسبوك ...

09 سبتمبر 2014
+ الخط -

في الصورة المنشورة على حسابه في "فيسبوك"، يقف صديقي أمام شجرةٍ عملاقةٍ، تظهر على أغصانها أسماءُ مجموعةٍ كبيرة من الأصدقاء. أبحث عن اسمي بينها، فلا أجده. أتساءل محرجةً: أنسيني صديقي في زحمة كل هذه الأسماء، أم أنه أسقط اسمي عمداً؟ وحين أستفسر من صديقٍ مشترك، يجيبني: هذا لأنك أبداً لم تُليّكي له (تضعي لايك)!
ليس الأمر بهذه البساطة. مدمنو "فيسبوك" وروّاده يدركون جيداً عمّا أتكلّم. فهذا اسمه الحَرَن الفيسبوكي. لم يُقل أبداً من باب العبث إنها أدوات التواصل الاجتماعي الحديثة، فوزنك من وزن نوعية لايكاتك وعددها، ثم هناك لايكات حزبية ونسوية وطائفية وفئوية وأممية، بحسب الجماعة الفيسبوكية التي تنتمي إليها. بئسٌ لك إن لم يحظَ الستاتوس أو المقالة أو الصورة التي نشرتها، بأكثر من بضعة لايكات، ومفاده أنك صعلوك جربوع، لا يأبه "لدرره الثمينة" أحد، أو أنك، في أفضل الأحوال، غير ذي قيمة في حسابات "الأمم" الفيسبوكية.
ولـ"فيسبوك" أرباب وزعماء ونجوم مطلقون، يكفي أن يكحّ أحدهم مثلاً، حتى ترى أسفل كحّتهم مئات اللايكات. وهي لايكاتٌ أقرب إلى المبايعة منها إلى التعبير عن الإعجاب، إذ وظيفتها أن تطري على مضمون، بل أن تنحني تبجيلاً للسلطة الفيسو- اجتماعية، وتأكيداً على استدامة مواقعها.
وأما الطامة الكبرى التي يواجهها الليّيك المحترف، فهي عندما يختلف زعيمان من هؤلاء، فيحار العبد الفيسبوكي المسكين إلى جانب من يقف. فهو، بامتناعه عن التلييك لهذا أو لذاك، ينسحب من أم المعارك، فلا يكون خاسراً بشرف، أو رابحاً بشرف، بل مجرد جبانٍ لا يُحسب له أي حساب. وأما إن ليّك هنا وهناك، فالويل له، لأن هذا معناه أنه غير ذي مبدأ فيسبوكي، وغشّاش، لا بل عنصر غير أصيل، يشوّش على حدة نقاء الخلافات والانقسامات، وعلى مصداقية أصحابها.
بعد حرن صديقي، رحت أُليِّـكُ بتركيزٍ في البداية، ثم كيفما اتفق. أصحو صباحاً، أغسل وجهي، أرتب أموري، ثم أجلس إلى طاولتي، وأبدأ التلييك.
لايك لمن صوّر صحنه، وأخبرني أنه تعشّى في المطعم الفلاني... لايك لمن تزوج، وأراد لنا أن نرافقه في شهر عسله، لكي نكتشف روعة عروسه، فسعادتهما منوطة طبعاً بشهرتهما كعريسين على الخارطة الفيسبوكية. لايك لتسريحة الشعر الجديدة، للمولود الجديد، للقطة الطريفة والكلب المهضوم. لايك للمنظر الطبيعي، لمن يريد وعظنا، منذ الصباح، وإفهامنا، بجملة واحدة، كل معاني الكون. لايك لنشر هذا الكتاب، لكتابة تلك المقالة، هذه الأفكار، ذلك الرأي، وضده، ثم ضد ضده، هذه الجملة، وتلك البصقة. لايك للأقرباء، للأحباب، للأصدقاء والأصحاب و... الأعداء! أجل، فمعهم ينبغي احتساب ألف حساب. لَـيِّكْ فيُلَـيَّكُ لك! لايك من هنا ولايك من هناك.
لا أخفيكم أن لي صفحة أنشأتها لأسباب مهنية بحتة، أنشر عليها كل ما يخصّ محترفي الرواية، وأني بعد حين، انزلقتُ فصرتُ أضع عليها مقالاتي الخاصة التي لي وعنّي. ولا أنكر أني أفرح حين يرتفع عدد لايكاتي، شاعرةً بضرورة ردّ الجميل، فأفعل ما أتمنى أن يُفعل لي. أعترف أن "فيسبوك" يختصر ضياع الوقت عليّ، إذ يطلعني بتكثيفٍ ودقةٍ على ما قد أصرف وقتاً لا بأس به في تقليب الجرائد والمجلات كلها، لكي أحظى به.
لكني، ولسببٍ ما، بتّ أضيق بخبث فيسبوكي، لا يختلف كثيراً عن الخبث الاجتماعي إياه، فإذا بي لا أستطيع التحامل، إلا على إصبعي التي ضغطتْ للمرة الأولى على لايك البدء. تبّا لك، يا إصبعي الغبية، تستحقين فعلاً أسوأ العقاب، وأولّه العضّ ثم العضّ ثم العضّ.


 

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"