فوضى برازيلية واستعباط أندونيسي وعنصرية أوروبية

فوضى برازيلية واستعباط أندونيسي وعنصرية أوروبية

01 مارس 2020
+ الخط -
ـ تحت تأثير الخوف من الفوضى والانفلات الأمني، قرر ملايين المواطنين البرازيليين المتأثرين بدعاية وسائل الإعلام اليمينية والمحافظة، انتخاب الرئيس اليميني المتطرف جايير بولسونارو عام 2018، وبعد أن وصل بولسونارو إلى الحكم اكتشف كثير من هؤلاء أنهم شربوا أكبر مقلب في حياتهم، وأنّ الفوضى لم تعد احتمالاً يخافونه، بل واقعاً تعيشه العديد من المدن البرازيلية، بعد أن زاد نشاط العصابات الإجرامية فيها، وقام المسؤولون اليمينيون المنتخبون بغض الطرف عن نشاطها، كنوع من تسديد الفوايتر الانتخابية لزعماء تلك العصابات الذين وقفوا إلى جوارهم في معاركهم الانتخابية، ومع زيادة الغضب الشعبي مما يجري، وزيادة الانتقادات الموجهة لإخفاق الشرطة في السيطرة على الجريمة المنظمة، تمرد عدد من ضباط الشرطة، في الأسابيع الماضية، وقرروا الإضراب عن العمل احتجاجاً على نقص مرتباتهم وعدم كفاءة تسليحهم، بشكل يجعلهم فاشلين في مواجهة العصابات الإجرامية المنتشرة في المدن البرازيلية.  

في الأسبوع الماضي، شهدت البرازيل موقفاً درامياً مثيراً، حين قام أحد أعضاء البرلمان السيناتور سيد غوميز بركوب جرّار، وهدد باقتحام حاجز شرطة في ولاية سيارا في شمال شرق البرازيل، كان يتمركز فيه عدد من الضباط المضربين عن العمل، وحين بدأ السيناتور في تنفيذ تهديده واقترب من الحاجز، تلقى طلقتين في صدره، واتضح أنهما طلقتا ذخيرة حية، وبدا أنّ الهدف كان قتله وليس مجرد عرقلته عن الاقتراب من الحاجز، لكنه لحسن حظه لم يمت، بل نقل إلى المستشفى في حالة حرجة، ليأتي الحادث الذي اهتمت وسائل الإعلام بتغطيته دليلاً على تواصل انزلاق البرازيل نحو الفوضى وغياب القانون، طبقاً لنص افتتاحية "إستاداو" التي نقلتها مجلة "ذا ويك" الأميركية. 

اتهمت الصحيفة ضباط الولاية بالتعدي على الدستور والقانون من أجل المطالبة برفع أجورهم، ومع أنها تفهمت طلباتهم برفع كفاءة التسليح وزيادة عدد قوات الشرطة لمواجهة نشاط العصابات الإجرامية التي تزايد نفوذها في الولاية، إلا أنها لفتت إلى تورط بعضهم في أعمال عنف، حيث قاموا بارتداء أقنعة ومهاجمة ضباط آخرين رفضوا الاشتراك في الإضراب، وهو ما أدى إلى تزايد الفوضى وفقدان السيطرة على الولاية، وطالبت الصحيفة بالتحقيق في إطلاق النار على السيناتور غوميز، والتعامل مع ما حدث بوصفه محاولة قتل يجب أن يحاكم من قام بها، كما طالبت البرلمان بالتحقيق مع غوميز بعد شفائه، وإجباره من خلال لجنة الأخلاقيات البرلمانية على التوقف عن هذه الأفعال غير المسؤولة التي تؤدي لنشر المزيد من الفوضى في البلاد.

ـ حال ضباط الشرطة في البرازيل، أفضل بكثير من زملائهم في هاييتي التي اضطرت حكومتها إلى إلغاء أنشطة الكرنفال الشهير الذي يقام في عاصمتها في هذا الوقت من كل عام، بعد أن حدثت اشتباكات مسلحة خارج القصر الرئاسي بين ضباط الشرطة المؤيدين للنظام وضباط الشرطة الغاضبين من تدني مرتباتهم والمطالبين بتحسين ظروف معيشتهم. أدت الاشتباكات إلى مقتل ضابط وإصابة ثلاثة آخرين، كانت الاحتجاجات قد بدأت، قبل أشهر، دون أن تلقى صدى من الحكومة، لتشتعل الأوضاع بعد أن تم فصل خمسة ضباط بسبب مجهودهم في تنظيم زملائهم الغاضبين، لينزل العديد من ضباط الشرطة إلى شوارع العاصمة ويقوموا بإشعال النيران، وهم يهتفون "ليس لديكم أموال لضباط الشرطة لكن لديكم أموال للكرنفال"، وحين تم منعهم من الاقتراب من القصر الجمهوري، اندلعت الاشتباكات المسلحة التي أدانتها الحكومة الهاييتية واعتبرتها هجوماً على الديمقراطية.

ـ على ذكر الكرنفالات، بعد أن تم توجيه انتقادات دولية متعددة لمظاهر العنصرية المتزايدة في الكرنفال السنوي الذي تقيمه مدينة ألست البلجيكية والتي تقع شمال العاصمة بروكسل، أعلن مسؤولو المدينة رفضهم لتلك الانتقادات، وواصلوا تحدي وسائل الإعلام والجهات الدولية الغاضبة، وسمحوا في الكرنفال الأخير باشتراك من يرتدون أزياء نازية ومن يصورون اليهود الأرثوذكس بوصفهم حشرات. كانت منظمة "يونسكو"، ولأول مرة في تاريخها، قد أعلنت سحب الكرنفال من قائمة الأحداث التراثية المهمة دولياً، بعد أن اشترك في كرنفال العام الماضي، أشخاص يرتدون ملابس يهودية ويربطون في أنوفهم أكياساً من المال. قال مسؤولو المدينة، في تصريحات لوسائل الإعلام، إنهم لن يسمحوا للأجانب بأن يملوا عليهم كيف يحتفلون "إنه كرنفالنا، وهذه طريقتنا في المزاح، ومن حق مواطنينا أن يفعلوا ما يريدونه". 

ـ نشرت صحيفة "جاكارتا بوست"، الأسبوع الماضي، مقالاً يتهم الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو بتهديد الديمقراطية في البلاد بشكل خطير، بعد أن قدم إلى البرلمان، أخيراً، قانوناً لتنشيط الاستثمار يتكوّن من 1028 صفحة، وحين تمت مهاجمة العديد من مواد القانون في أروقة البرلمان، تناقلت وسائل الإعلام ما جرى، واتهمت الرئيس الإندونيسي السابع للجمهورية بأنه يسعى لاغتصاب العديد من الصلاحيات التشريعية ومنحها لنفسه بشكل يهدد الديمقراطية في إندونيسيا، وهو ما اضطر بعض المسؤولين إلى التراجع بعض الشيء، والقول إنّ مشروع القانون امتلأ بعدد من الأخطاء المطبعية التي يمكن أن يتم تصحيحها. 

سخر كاتب المقال توفيق الرحمن من رد الحكومة الإندونيسية على معارضيها الغاضبين من مشروع القانون، قائلاً إنّ الأخطاء المطبعية تعني وضع نقطة بدلاً من الفاصلة، أو تغيير حرف بآخر، أما صياغة مواد قانونية تكفل للسلطة التنفيذية التصرف كما تشاء دون الحاجة إلى الرجوع إلى السلطة التشريعية، ودون أن تخضع للرقابة المسبقة واللاحقة على تصرفاتها، فهذا أمر لا يمكن التعامل معه بوصفه مجرد سهو أو عملاً قام به موظفون قليلو الخبرة، فهو في حقيقة الأمر محاولة جادة لتسميم الحياة السياسية والقضاء على مبدأ الفصل بين السلطات الذي يقوم عليه النظام الديمقراطي في البلاد، لتركيز السلطات في يد الرئيس الإندونيسي الذي تم انتخابه، في مايو/أيار الماضي، لفترة رئاسية ثانية مدتها خمس سنوات. 

كان ويدودو قد تعهد فور تجديد انتخابه بالعمل على جعل إندونيسيا بلداً جاذباً للاستثمار الأجنبي، ولذلك أعلن عن إجراء تعديلات في أكثر من 82 قانون من القوانين المنظمة للمال والأعمال، وهو ما اعتبره الكاتب هدفاً مهماً، لكنه رفض أن يتم السعي لتحقيق ذلك الهدف بتحويل الرئيس إلى ملك مطلق الصلاحيات، وانتقد قيام بعض وزراء الرئيس بتحذيره من التخلّي عن بعض الإصلاحات المثيرة للانتقادات، لأنه سيقلل من تأثير مجهوداته لدى الرأي العام، مع أنّ الحلول الوسط هي جزء من العملية الديمقراطية، كما يقول الكاتب الذي لم أعثر على بريده الإلكتروني لأشد على يديه، وأطلب منه أن يراعي أنّ له إخوة في العالم الإسلامي وعالم عدم الانحياز سابقاً، يمكن أن يقوم كلامه بتقليب المواجع عليهم، وأنّ عليه أن يحمد الله لأنّ لديه مسؤولين يقلقهم الضغط الجماهيري ويدفعهم للتحجج بالأخطاء المطبعية، لكنني تذكرت أنه يعرف جيداً ما نعيشه، فقد مرت بلاده بما هو أسوأ منه، ولا يزال ينتظرها الكثير حتى ينجح التحول الديمقراطي فيها في تغيير حياة ملايين الإندونيسيين إلى الأفضل، فلا يتورطوا في إعادة الديكتاتورية إلى بلادهم، أملاً في تحقيق حلول نهائية لمشاكلهم. 

ـ في الشهر الماضي، أدلى السياسي الهولندي اليميني تييري بوديه زعيم "منتدى الديمقراطية" بتصريحات نارية هاجم فيها المهاجرين والمواطنين الهولنديين من أصول عربية، وتحدث على حساباته في مواقع التواصل الاجتماعي عن تعرّض سيدتين صديقتين للتحرش من قبل أربعة مغاربة على متن إحدى القطارات، متخذاً من تلك الواقعة ذريعة للقول إنّ على الهولنديين أن يكفوا عن التصرف بطفولية وسذاجة وينهوا هراء الصوابية السياسية، ويعلنوا عن دعمهم لحزبه في الانتخابات العامة التي ستعقد في 2021؛ لأنّ ذلك هو السبيل الوحيد من أجل إنقاذ هولندا، خصوصاً أنّ حزبه كان قد سبق أن حقق نجاحات مفاجئة في الانتخابات التي أجريت، العام الماضي. 

المفاجأة التي كشف عنها، أخيراً، أنّ الواقعة التي تحدث عنها بوديه في تصريحاته، والتي استفزت الكثير من الهولنديين المحتقنين، لم تقع مثلما رواها بوديه على الإطلاق، فقد أفادتت شركة القطارات التي يتبعها القطار الذي تحدث عنه بوديه، بأنّ ما جرى لم يكن حادث تحرش على الإطلاق، وأنّ الأربعة الذين تحدث عنهم بوديه، يعمل ثلاثة منهم كمفتشي تذاكر في القطار، فيما الرابع هو ضابط شرطة استدعاه المفتشون بعد أن رفضت السيدتان طلبهم برؤية تذاكر القطار. 

لم يجد بوديه بداً من الاعتراف بتسرّعه في ربط المواجهة التي جرت في القطار، بظاهرة الهجرة التي تشهدها هولندا، لكن العديد من الصحف الهولندية واصلت الهجوم عليه، لأنه حاول الاعتذار عن خطئه في توصيف الواقعة، لكنه لم يعتذر عن توجيهه الإهانة إلى أقلية بأكملها بسبب هجوم متخيل، دون أن يبالي بتأثير ذلك على المجتمع الهولندي، ولذلك تم فتح تحقيق معه من قبل الشرطة الهولندية التي وجهت إليه تهمة البلاغ الكاذب، لكن الأهم من نتائج ذلك التحقيق، هو نتائج الانتخابات المقبلة التي ستثبت ما إذا كان المجتمع الهولندي مستعداً للتسامح مع العنصرية أم لا، لا سيما أنّ نتائج تلك الانتخابات ستكون مؤثرة على أوروبا بأكملها، وليس على هولندا فقط. لننتظر ونرى.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.