فنزويلا والمزامير الجيوستراتيجية

فنزويلا والمزامير الجيوستراتيجية

31 يناير 2019
+ الخط -
ما إن شبّت الأزمة الفنزويلية، حتى انتصب ميزان الجيوستراتيجية، ووزّعت الأحجار بين اللاعبين، وبدأ الكباش بين فحول العالم: الرأسمالي، وعذراً، الديمقراطي أيضاً، اصطفّ مع المعارضة الفنزويلية المتمثّلة برئيس الجمعية الوطنية، النائب خوان غوايدو. وتقف على رأس هذا "المعسكر" الولايات المتحدة، ومعها حلفاؤها من كندا ودول أميركية لاتينية، وتردّد أوروبي. ولكلها مصالح في فنزويلا متفاوتة، وطبعاً، لصالح الأكبر والأقوى بينها، أي الولايات المتحدة. وهذا اصطفافٌ منطقيٌّ، إذ لا تحب هذه الكتلة الدول التي تتقاسم مصالحها مع غيرها من الدول، المنافسة، غير الحليفة، وإنْ كانت مستعدةً للتسوية، فوق رقعة الشطرنج، تتبادل بموجبها القلاع والأحصنة.
أما العالم الثاني، فتتزعمه كل من روسيا والصين، وتبدو الأولى أكثر تقدّماً في مصالحها من الثانية على الرقعة الفنزويلية. ماذا نسمّي هذا المعسكر؟ لو اندلعت الأزمة الفنزويلية، في زمن الحرب الباردة، كان وصف هذا المعسكر بـ"الإشتراكي" منطقياً، وقلنا ساعتها إن الصراع الفنزويلي أجّجَ الحرب "بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي". ولكن الواقع ليس بهذه البساطة؛ سقوط الاشتراكية في كلا البلدَين الزعيميَن، الصين وروسيا، أبعدهما نهائياً عن النظام الاشتراكي (هذا من دون حساب أصلاً مدى هذه "الاشتراكية"). واحدة، أي الصين، نفذت بريشها، إذ حافظت على الحزب الواحد القائد، وتحوّلت نحو الاقتصاد الرأسمالي الأكثر توحشاً. فيما الثانية، روسيا، شهدت انهياراً دراماتيكياً لحزبها القائد ولاقتصادها "الاشتراكي"، وتحكمها الآن أوليغارشيةٌ من المليارديريين الجُدُد، بزعامة رجل مخابراتٍ سابق، يكره بدوره الديمقراطية.
إذا أردنا التصنيف بالتالي، سوف نقول إن الصراع يتمحور بين قطب رأسمالي ديمقراطي، 
أميركا وحلفائها، وقطب رأسمالي غير ديمقراطي، روسيا والصين وحلفائهما. بإيجاز شديد طبعاً، لا يسعنا هنا غير الاختصار. وهذه أولى السقطات الأيديولوجية التي يمارسها المعلّقون ممن استهواهم "النهج" الجيوستراتيجي، بخدمتها مصالح "محورهم"، وبرنين لفظها. دعْ عنك الذين يقفون مع الأميركيين، أو يقف الأميركيون معهم؛ وليكن الله بعونهم، لأن الحليف المتذبْذب، لا يؤتَمَن جانبه؛ هذا طبعاً إذا اعتبرنا هذا التحالف ندّياً، لا وصاية فيه على الشعب الفنزويلي.
أما سدَنَة القطب الآخر، فبماذا يتميّزون عن عدوهم؟ هل يمكن لهم مثلاً القول إن الدول المساندة للحكم الشافيزي، صاحبة تجربة ناجحة في الاشتراكية، وتشجع على تطبيقها في فنزويلا؟ أو أن نصارحهم، من دون وَجَل، بأن لروسيا أكثر من الصين مصالح ومشاريع قواعد وتدريبات عسكرية وأمنية واستثمارات وقروض وشهية مفتوحة للبترول تحت الأرض والذي يفوق ما للدول النفطية الأخرى غزارةً؟ أو بأن روسيا والصين، مثل الولايات المتحدة، يهمهما مجالهما الحيوي، ومناقرة الأميركيين في عقر قارتهم، وابتزازهم، وقد صرفتا أموالاً وأسلحة وتدريباتٍ ومناوراتٍ من أجل ذلك، تتجاوز عشرات الميليارات من الدولارات، تثبيتا لـ"الحكم الوطني الاستقلالي" الذي يلبي مصالحهما؟ قلّة استقامة؟ قلّة وضوح؟ تفويت تام مع العصر؟ إنه "العنفوان" الجيوستراتيجي الذي يقسم العالم إلى أقطابٍ تتصارع على رقع من الأرض وعلى خيرات، وأما الباقي، فلا قيمة له.
ومن بين هذا الباقي أن التجربة الاشتراكية، بعد فشلها في روسيا والصين، فشلت أيضا بصيغتها اللاتينية في البرازيل (بسبب فساد رئيستها ورئيسها "الاشتراكيين") والأرجنتين والإكوادور. والإقرار بهذا الفشل هو بداية التفكير للخروج باستنتاجات. استنتاجات جدّية ومفيدة، لا تلك الجاهزة، المعلَّبة، المتمسكة بالانتصارية، المكتفية بتلاوة الأسباب المضحكة؛ ومن هذه الأسباب أن الاشتراكية في فنزويلا فشلت لأن الأميركيين حاربوها! وكأن الإمبريالية الأميركية طارئة على هذه الأرض، لم تحرث فيها طوال عقود تدخلاً واستغلالاً وانقلابات.
بؤس الجيوستراتيجية: الحماسة المبالَغ بها التي أفضت ببعضهم إلى مقارنة "صمود" الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، المتمسك بالسلطة، بـ"صمود" بشار الأسد. لا تهتم بالوجه الهزلي لهذه المقارنة، وتأمّل جيدا، بمقارنة رديفة: الأسد ومادورو، على رأس نظامين تجويعيين، قمعيين، يخونهما الحظ بشعوبهما، مع الفارق أن الثاني لم يتمكّن من إيقاف المعارضة البرلمانية التي فجّرت الموقف كله. الجيوستراتيجية لا تنظر إلى سفائف كهذه، وإذا نظرت، فكأنها تنكر نفسها بنفسها. إنها علم "الكبار".
نزق الجيوستراتيجية: أولئك "الكبار" الذين لا ينحنون إلا فوق الخرائط، ويقيسون مدى تقدّم ذاك الحصان، ومدى اختراق تلك القلعة، يتعامون عن شيءٍ أساسي: الشعوب المعنية بهذه اللعبة، أو بالأحرى، أداة هذه اللعبة. يحاول الشعب الفنزويلي أن يخوض معركته بما توفَّر له. مآل هذه المعركة هي تلك الأزمة التي نشهدها اليوم: بين رئيسٍ نسج علاقاتٍ قوية مع روسيا والصين، يؤيده الجيش والبرجوازية الجديدة التي اغتنت على ظهر شعارات سيمون بوليفار، ناهيك عن الفرَق شبه العسكرية، الموالية للسلطة، والتي تقتل المتظاهرين على طريقة "الحرس الثوري الإيراني"؛ وأصحاب "كوبونات" الطعام ممن أعلنوا ولاءهم للنظام... إلخ. ورئيس 
مجلس نواب يعارض هذا الرئيس، له صلات بالأميركيين، مدعوم شعبياً، أو على الأقل من الجزء الأنشط من هذا الشعب، يعلن براءته من الرئيس مادورو، وينصِّب نفسه رئيسا بديلاً.
"نظام الفقراء"؟ كان ذلك في البداية، منذ عشرين سنة، مع هوغو شافيز، مؤسس "الجمهورية البوليفارية"، وموزّع الطحين والمنازل على الفقراء دعماً لسلطته.. أما الآن فالشعب يهيم على وجهه، ثلاثة ملايين منه طفش بما خفّ حمله إلى الدول المجاورة. ماذا حصل له؟ تعطلت الحياة عنده بعد انخفاض أسعار النفط: اقتصاد ريعي سلطوي فاشل، يسندُه العسكر بتسع وزارات، من بينها الدفاع والداخلية والزراعة والغذاء، ومنخرط في "بزنس" الاشتراكية "البوليفارية"، يسيطر على المصارف الرسمية، على استيراد المواد الغذائية وتوزيعها، على إنتاج النفط واستثماره، على الثروات المعدنية الواقعة في جنوب البلاد، والتي تحتوي على كنوز من الذهب والماس والحديد والمعادن الأخرى، فعلى الرغم من ثروات فنزويلا الهائلة، لم يعد لخزينتها موارد للطبابة (موت الأمهات)، والتعليم والطعام، موارد فقط للفساد الذي بلغ أرقاما خيالية (700 مليار يورو فُقِدت من صندوق الدولة). ثم فلَتان أمني، من قتل ونهب وسرقات، تطاول المواد الغذائية أساساً. فنزويلا، بلاد الهجرة والخيرات، تفرغ من كفاءاتها، وتتحوّل بعد عشرين عاماً من الحكم الاشتراكي البوليفاري التشافيزي إلى أنقاض. أليس هناك ما يستدعي التوقف قليلاً، قبل الإسراع في إنشاد المزامير الجيوستراتيجية؟