فلسطين تبدأ من شمالها

فلسطين تبدأ من شمالها

27 مارس 2016
("الجرمق"، شمال شرق الجليل/ أعلى جبال فلسطين)
+ الخط -

قبل بضعة أيام سألني رجل نرويجي عن أصل الصراع بيننا والصهيونية. قال: أريد أن أفهم الأمر بجلاء؟ أمسكت بقلمي وجلسنا كمفاوضين إلى طاولة، وبدأت أشرح بالرسم وبالتواريخ على مغلف فيه ورقة مهمة تلقيتها، للتو، وهي تخصّ مصدر دخلي. نهاية النقاش أخذني إلى حائط عليه صور جبال مضيئة، وقال لي إن عمله كمهندس إضاءة هو تسليط الضوء في الشتاء، بشكل هندسي فني، على جبال تحيط بالمدينة التي نسكن.

أردت أن أستهل كتابة هذه السطور بمناسبة الذكرى الأربعين ليوم الأرض الفلسطيني، بهذه المفارقة الغنية بالإشارات وبالتواريخ وبالفوارق في الاهتمامات بيني كفلسطيني مغترب يلقي بضوء ذاكرة بلاده القاتمة على رجل نرويجي يحتفي بتضاريس بلاده أمامي على نحو مثير. وإذاً، ها هي ذكرى "يوم الأرض" تطلّ وتحضر من جديد! الأرض التي احتلها الغرباء وشرّدوا شعبها الأصلي، بقانون القوة.

لم أكن قد ولدتُ حين كانت الهبّة الشعبية في شمال الداخل الفلسطيني في مارس/آذار 1976، لكنني عشت تفاصيل الرواية، كطفل من جيل انتفاضة الحجارة. طفولتنا هناك في الجنوب الفلسطيني، والتي كوّنت أغلبَ مفرداتها وأثّرت فيها حكاية الأرض وانتفاضة الحجارة الأولى، وأنّ فلسطين تبدأ من شمالها: الجليل. فكان كلّ يوم من أيام أحداث الانتفاضة الأولى درسا ويوما للأرض.

قراءة الفتيان والفتيات لتاريخ وجغرافيا فلسطين التاريخية كانت ولا تزال كفيلة بخلق نبرة مميّزة في أصواتهم وهم يقولون: "فلسطين التاريخية". وكنا نحبّ الحجارة بطريقة رائعة في إطار الانفعال الوطني الذي لم يكن يخلو، حقاً، من رومانسية ما أدركنا معناها وإضمارها لحالة جمعية حميمة، فقدنا روحها وبكيناها عندما كبرنا.

لنعيش مرارة أننا كفلسطينيين كنا وما زلنا بلا سند حقيقي لا يضرنا. وكلّ حديث عن الأرض مرهون بالحساسية السياسية، برسم سلسلة أحداث ووقائع وأخطاء وخيبات. حيث كنا نريد شيئاً يساند وسيلة الحجارة بوصفها إحدى لغات الأرض.

عندما ضرب صدام حسين "إسرائيل" بصواريخه قرابة الأربعين هلل الفلسطينيون وكبّروا، وبعاطفة من قلوب مكسورة لم تع العواقب، أيّدوه لأنه ضرب العدو. دفع الفلسطينيون ثمن خطأ الوقوف مع قيادة العراق في احتلال الكويت آنذاك. فجاء اتفاق أوسلو الذي في مرحلة الضعف والهوان العربي كنتيجة لحرب الخليج الأولى.

الانتفاضة الثانية دبّر لها ودحرجها في وجه الاحتلال ياسر عرفات الذي كان أقوى رجل يضبط البيت الفلسطينيّ، دعم بطريقته كتائب شهداء الأقصى وهمس أو أرخى الحبل لحركات المقاومة الإسلامية ليخلق ورقة ضغط في ظل تعثر المفاوضات مع العدو الذي قرر أن يضع حداً بطريقته لحياة عرفات، فقُتل الزعيم مسموماً. وكان الاحتلال في فترة ما قد أدرك خطر نهوض المقاومة في الضفة الفلسطينية، فسارع إلى اغتيال أمين الجبهة الشعبية: أبو علي مصطفى.

بعد عرفات جاء أبو مازن ومعه خيار واحد مازال يؤمن به، وهو التفاوض من أجل صنع "السلام" مع العدو. لم يثمر حتى الآن خياره عن شيء يخفّف، على الأقل، من وجع "أوسلو" المزمن.

صعدت حماس مستمدة قوتها من نفسها أولاً كتنظيم منغلق ومحكم، على عكس تنظيم فتح الذي خرب نفسه بنفسه وكان ينتمي إليه كل من هب ودب، بوصفه بوابة الثورة الفلسطينية الأولى. حماس المستثمرة من أطراف، تمتلك الآن سلاحاً يفوق في تأثيره على إسرائيل صواريخ صدام حسين التي أفرحت الفلسطينيين وكسرت فيهم، للحظة، صرخة: يا وحدنا.

لا زالت حماس تحت الخطاب الراديكالي ضد العدو، ولكنّ لعابها يسيل أمام كل منفعة مادية. وفي نفس الوقت ما زالت تفرض سلطتها القاسية والجائرة على بقعة عزيزة من المكان العاطفي. ما العمل؟

سؤال وطني صعب، يسأله الفلسطينيون الذين أتعبتهم المفاوضات والزيغ عن الأهداف المرفوعة ووهم المصالحة، غير أنهم يقدمّون اليوم إجابة مشرفة في الضفة الفلسطينية. وإذا ما أتينا على ذكر الحنين، يمكن القول في ختام هذه السطور: ما يحصل الآن هناك هو اشتياق النبلاء إلى الانتفاضة الأولى.