فشل انقلاب تركيا ونجح في إسقاط حقوق الإنسان

فشل انقلاب تركيا ونجح في إسقاط حقوق الإنسان

24 يوليو 2016
+ الخط -
بإعلانه فرض حالة الطوارئ، ثلاثة أشهر، على عموم الأراضي التركية، اعتباراً من العشرين من يوليو/تموز الجاري؛ يُدشن الرئيس التركي، طيب رجب أردوغان، فصلاً آخر، إن لم يكن حقبة جديدة، في الحالة السياسية والاجتماعية في تركيا ما بعد انقلاب 15/7. ومن شأن حالة الطوارئ أن تدفع التراجع الحادّ في منسوب الحريات في البلاد في أعقاب الانقلاب الفاشل، وما تبعه من إجراءاتٍ أمنية، إلى مستوياتٍ أكثر تدنياً وخطورة في الوقت نفسه.
بدايةً، ليست مسألة "الانقلاب" بحد ذاته، وأياً كانت الأطراف المتداخلة فيه، وبمعنى جنوح طرفٍ ما في الدولة، تنظيماً عسكرياً أم مدنياً أم خليطاً منهما أو غير ذلك، لمحاولة الاستيلاء على مقاليد السلطة بالقوة أو "عنوةً"، ليست بالضبط موضوعاً يختصّ به القانون الدولي لحقوق الإنسان، ولا يحتوي هذا القانون وأطره ذات العلاقة على أي موقفٍ من شأنه تفسير الوضع القانوني للمُنقلبين، أو للجهات التي تقارعهم. وباختصار؛ ليس موضوع الانقلاب من اختصاص قانون حقوق الإنسان الدولي.
وتكريساً لما سبق، وعطفاً عليه، فإن جُل مواضيع هذا القانون تكمن في التدقيق في الممارسات التي لجأ إليها المُنقلبون أو السلطات الشرعية في محاولة التصدّي لهم. مثلاً، إن تحرك أرتال الجنود والدبابات الانقلابية مساء 15/7 باتجاه الجسر الذي يفصل القسم الآسيوي من إسطنبول عن قسمها الغربي، ليس موضوعاً ذا صلةٍ في هذا السياق. ويدخل في الإطار نفسه، مثلاً، كذلك تحليق الطائرات الحربية في سماء المدينة من ذلك المساء، إلا أن إطلاق تلك الطائرات النار على تجمعاتٍ من المتظاهرين، وبحسب ما ورد في تقارير عديدة، وبعضها تم تصويره مباشرةً، يُشكل خرقاً فادحاً للقانون الذي لا يُجيز استخدام القوة المفرطة، وعلى نحوٍ قاتلٍ بحق المتظاهرين السلميين. وتشكل النقطة الأخيرة مجرد مثالٍ واحد فقط على المواضيع التي تتداخل في اختصاصات قانون حقوق الإنسان خلال الانقلابات واختلال السلم الأهلي. ومن الثابت أن القوة الانقلابية ارتكبت انتهاكاتٍ بعضها جسيمٌ، كما ورد في المثال السابق، وتمثل بعضها الآخر في القصف العشوائي بالطائرات لمناطق في أنقرة مساء 15/7 واستهدافها أعياناً ومنشآت مدنية، أو تأوي مدنيين داخلها، بما يعرّض حياة هؤلاء وأمنهم وسلامتهم لخطر بالغ، كما وتمثل بعضها في دهس المدنيين بالعربات المُدرّعة، بحسب تقارير صحافية.

وفي الوقت الذي وقفت أوساط سياسية واجتماعية عريضة في تركيا وخارجها، ومن ضمنها أحزاب المعارضة التركية، والتي تناصب أردوغان وحزبه (العدالة والتنمية) الخصومة والاختلاف؛ بالإضافة الى كُتّاب وصحافيين وفنانين، علمانيين وإسلاميين وغيرهم، في خندق رفض المحاولة الإنقلابية، والتنديد بها؛ فإن سلوك السلطات الحاكمة، والإجراءات التي اتخذتها في أعقاب الانقلاب، تُغذي بواعث قلقٍ عديدة على مستقبل بلد عُرف بتنوع حاضنته الثقافية والمجتمعية، ودفعت أجيالٌ بعد أجيال أثماناً باهظةً لحماية تعدّديته ولصيانة مساحة الحريات وإدامة سيادة القانون فيه.
وفي المقابل، اتسمت إجراءات السلطات التركية، في أعقاب فشل الانقلاب، بشكل أساسي، بالتعسف. ويُقصدُ بالتعسّف في هذا المقام، وفي أي مقام متعلق بالقانون الدولي لحقوق الإنسان الذي تتعاقد تركيا في إطاره؛ اتخاذ إجراءاتٍ لا سند قانونياً لها، ولا مبرّرات قانونية لها. وتعالت أصواتٌ عديدة داخل البلاد وخارجها، مُنددةً بهذه الإجراءات، ووصفتها بأنها إجراءات "انتقامية"، وتهدف إلى "التطهير"، ونقيضاً صارخاً لإعمال سيادة القانون أو لتكريس احترام حقوق الإنسان.
وتمثلت أولى الإجراءات التعسفية وأبرزها في طرد 2745 قاضياً ومدعي عام وتنحيتهم من وظائفهم القضائية، في اليومين اللذين أعقبا فشل الإنقلاب. وذكرت التقارير الواردة من تركيا أن 1270 من هؤلاء تم احتجازهم، و730 منهم، قيد الاحتجاز الذي يسبق المحاكمة. وأياً كانت الحجة التي قدّمتها السلطات التركية في إزالة هؤلاء من مناصبهم، ومنها الدعم الضمني لتيارٍ سياسي يُناهض الحكومة، ويناصبها العداء، فإن قرار المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين عزل هؤلاء لم يستند إلى أي إجراءاتٍ للتحقيق في "مزاعم" ضلوع القضاة المعنيين بأي أنشطةٍ، يمكن تفسيرها خروجاً غير مقبول عن الإطار الوظيفي لأيٍّ منهم؛ ولم تنعقد أي جلساتٍ للنظر في أي اتهاماتٍ موجهةٍ لكل منهم على حدة. ولم يتم في أي سياقٍ السماح للقضاة المعنيين بالتظلم والطعن في إجراءات العزل، أو حتى المثول أمام هيئة تحقيق، وتم اتخاذ قرارات العزل والطرد في جلسةٍ استثنائيةٍ للمجلس المذكور في الساعات الأولى من صباح اليوم الذي أعقب فشل الإنقلاب.
واستمرّت وتيرة الإجراءات التعسفية على نحو مطّرد، في الأيام التي أعقبت سقوط الانقلاب. وفصلت وزارة التعليم، في التاسع عشر من يوليو/ تموز الجاري، 15,200 موظفاً تابعاً لها من أعمالهم، في حين بلغ عدد الموظفين العموميين الذين طردتهم السلطات من أعمالهم الحكومية 37 ألفاً. والواقع أن أبسط إطار قانوني يُنظم علاقة أصحاب العمل مع العاملين لا يسمح إطلاقاً بطرد العاملين من وظائفهم، من دون المرور بإجراءاتٍ من شأنها، في المقام الأول، تثبيت حقوق العاملين المالية والوظيفية، وإبراز ما يكفي من الأدلة لإقناع جهة قضائية (محكمة مختصّة) بصواب مطالب صاحب العمل في التخلص من العاملين لديه.
وفي مقامٍ شبيه، ذكرت صحيفة صباح المقرّبة من حكومة حزب العدالة والتنمية، أن مجلس التعليم العالي طلب من 1577 من عمداء الجامعات تقديم استقالاتهم الفورية. ويُشكلُ هذا المطلب ضربةً قاصمةً لإطار الحريات الأكاديمية التي قامت الجامعات التركية، عقوداً، على أسسها، ويُصيبُ بمقتل استقلالية هذه الجامعات وازدهارها، بوصفها حواضن للعلم والتفكير، فلا يكفي أن يتم التذرع بأن هؤلاء يحملون أفكاراً أو يعتنقون مبادئ تناهض النظام الحاكم، أو "يُشتبهُ" في أنهم من معتنقي فكر تيار سياسي لا تحبّه الحكومة، أو تناصبه الكراهية. وينطبق الأمر على الأكاديميين الآخرين الذين منعتهم وزارة التعليم من القيام بأي عملٍ بحثي علمي خارج البلاد إلى اشعار آخر.

كما لجأت السلطات إلى حجب 20 موقعاً إلكترونياً اخبارياً على الأقل، وألغت تراخيص 25 مؤسسة إعلامية، وألغت كذلك البطاقات الصحافية (اعتماد) 34 صحافياً، في وقت نشرت فيه الشرطة دعواتٍ تطلب من المواطنين التبليغ عن أي كتابات على وسائط التواصل الاجتماعي، تحتوي على ما وصفتها "البروباغندا السوداء" ضد الحكومة، ما دفع، بحسب تقارير صحافية، أتراكاً عديدين إلى إغلاق حساباتهم على "فيسبوك" و"تويتر". وتكمن المفارقة في أن وسائط التواصل الاجتماعي هذه كانت "القناة" التي لجأ اليها الرئيس أردوغان، في الساعات التي تلت التحرّك الانقلابي ضده، ومن خلالها حثّ جمهوره وأنصاره على النزول إلى الشوارع والساحات والمطارات، للوقوف في وجه الانقلاب، في وقتٍ حاصر فيه الإنقلابيون وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، واستخدموا بعضها لبثّ رسائلهم. وفي 21/7، اعتقلت السلطات الصحافي ومحامي حقوق الإنسان، أورهان كمال كنغيز، والذي يحظى باحترام واسع، واقتادته إلى التحقيق في اسطنبول.
في استعراض ما سبق، يتوجب التأكيد على أن المبدأ الذي تقوم عليه فكرة سيادة القانون يتمثل في أن كل الإجراءات المتخذة من الدولة (والحكومة في هذا السياق جهةٌ تقوم مقام الدولة في تنفيذ القانون، والسهر على تطبيقه وإحترامه) تتخذ من القانون المكتوب والتعليمات المنبثقة عنه مصدراً وحيداً لها، وعلى قاعدة أن توفر هذه الإجراءات ضمانات بالعدالة والإنصاف لجميع المتأثرين بها.
ولا توفر الإجراءات التعسفية التي لجأت اليها حكومة أردوغان، في أعقاب فشل الانقلاب، أي ضماناتٍ لمواطنيها، باستعادة سيادة القانون، ولا تكرّس سياسةً حازمةً تجاه تكريس حقوق جميع المواطنين الأتراك، بل تفتح الباب على مصراعيه، بعد إقرار حالة الطوارئ، على احتمال مزيد من الإجراءات التعسّفية والتمييز. لم يكن الرئيس رجب طيب أردوغان في حاجة سوى إلى تكريس دولة القانون وحقوق الإنسان، في ردّه على محاولة الانقلاب الفاشلة. لم يكن مطلقاً بحاجة إلى التعسّف في التعامل مع المتآمرين على حكمه، فبلاده شكلت نموذجاً نادراً في المنطقة من رسوخ مؤسساتها وانفتاح مساحتها السياسية والاجتماعية، بما يوفّر له، ولعموم الأتراك، الضمانة الحقيقية في اجتثاث التيارات الانقلابية التي أرّقت الدولة عقوداً مضت.
0D42F830-E8EB-4AD9-84F2-8C584BB79687
فادي القاضي

خبيرٌ إقليمي، من الأردن، في مجالات حقوق الانسان والإعلام والمجتمع المدني.