غزة في قلعة صلاح الدين

28 يوليو 2014

قلعة صلاح الدين الأيوبي في القاهرة (1920/Getty)

+ الخط -


كان المساء قريباً في انحداره على قلعة صلاح الدين، مكان الحفل المنتظر على مسرح الأوبرا، حيث بدأت الجموع تتقاطر، وتأخذ مكانها المحدد في الساحة الرئيسة، لحضور أحد مهرجانات القلعة السنوية في القاهرة. لم يكن يشغل البال غير الأحداث الأبرز على الساحة العربية، وانفتاح كوّة النار في كل جزء منها، وبعض جموح تفكيرٍ في أنّه لو كان صاحب هذه القلعة حيّاً لما نشدنا المعجزات لحل أزماتنا. وهذه الأحداث هي ما استدعى تلك الذكرى، وما استرعى مناجاة صلاح الدين والدنيا، من مرقده، ليقوم بواجبنا نيابة عنّا. ما أحوجنا إلى حنكته ليقوم بفتوحاتٍ جديدة للشام وتحريرها. ومثلما قام من قبل بالقضاء على أمير حلب "كمشتكين"، بفضل حكمته وفطنته التي مكّنته من تحرير الشام من قبضة الاخير، يمكنه أن يفعل الآن. ليس كما تحصد الحشود العربية ومن خلفها الدولية من خيبات، حتى عند القيام بمهام صغيرة، مثل توصيل الإغاثة، فكيف بعملية تحرير كاملةٍ، أو مواجهةٍ محسومة مسبقاً.

وما أحوجنا إلى "حطين" أخرى، لتحرير قطاع غزة، مثلما حرّر صلاح الدين مملكة القدس، فقد واجه وقتها في حرب تم التعارف عليها تاريخياً كإحدى الحروب الصليبية التي قامت ضد مسلمي الشام. كان همّ القائد، قبل التفكير في الانتصار، هو العمل على توحيد المسلمين، سواء بأساليب الإقناع أو بالقوة. ولم يقف في هذه المعارك على جنوده فقط، وإنّما فتح باب التطوع، فقدم إليه من الموصل والشام والجزيرة من أهمّته القضية، فكانوا خير داعمٍ لجيشه.

يكاد الرجوع بالخيال إلى ذاك التاريخ يُفقد البوصلة تماماً، نسبة إلى شدة الانفصام بين الماضي والحاضر. فبينما كانت هناك وحدة وقوة، فهنا انقسام وتشرذم. وبينما يتسم قادة ذاك الزمان بإنسانيتهم ونبلهم في الحرب، كما في السلم، تنعدم في ساحات النزاعات الحالية كل معاني الإنسانية. فالقتلى يتم التمثيل بجثثهم، وتكاد الأرض ترتوي دماً لتغرس من فوقها صور أشلاء الضحايا، والجرحى والأسرى تُساء معاملتهم، إمعاناً في التعذيب، والمدارس الآمنة تصير إلى خراب. وهذا كله لا يُفقد الحساسية فحسب، وإنّما يُفقد أي فرصة لبروز ذرة إنسانية. هي حالة أقرب إلى التشفّي منها إلى حالة نزاع يؤمل حلها.

تبدو الصورة على درجةٍ كبيرة من الوضوح الفاضح، بأنّ كل ما في الوطن العربي ماضٍ إلى حافة هاويةٍ، لا متناهيةٍ على هذه الأرض المستثارة. وبالعودة إلى ساحة القلعة، يمكن الإحساس بأرواح الضحايا، هنا وهناك، تتدانى مثل ذكريات وآمالٍ تدخل ما بين رهافة العزف الموسيقي وقعقعات السلاح، مزجٌ بين الحقيقة الماثلة والخيال المؤمل. حتى إذا ما أُشرع باب لتلاقح الثقافات، تداعت ظلالٌ أشبه بالسحب الداكنة. وقد كانت مصر، من قبل، قبلة الثقافات وساحتها. لا يلبث أن يخرج من تحت ذلك الظلّ، ظلّ القلعة العتيد، المنعكس عليه أضواء المسرح وأضواء القاهرة، المدينة التي جُبلت على الحركة والحياة وهي تحاول جاهدةً، باحتفاليات قلعتها، أن تؤكد أنّها عادت إلى سيرتها الأولى، وهيهات وهي تغالب الظنّ بأنّ حاضنتها ما زالت مصر المؤمّنة.

حين استراق السمع لبعض الفعاليات، في دهشةٍ لا تنتهي، يسترجعك المشهد تارة أخرى ليعود إلى حطين، المعركة الفاصلة التي تأخذنا إلى تلابيب "مملكة السماء". هنا موسيقى حية، ومن دون مؤثرات صوتية، وأغانٍ موصدة النوافذ لا تضمن الإطلالة من خلالها نحو توازن الشتات الجماهيري الذي لا يمثّل الأمة العربية، كما كان يفعل من قبل. يمهّد الحضور النوعي لفكرة أنّ الألوان الموسيقية تذوي وتتلاشى، وغير بعيد صولات وجولات تخترق الأذن حوافر فرسانها.

كم هي كبيرة تلك المراثي وهذه المآسي. فالمراثي ليست على انتصارٍ تم نقشه على جدران التاريخ، وإنّما على عظمة التاريخ نفسه، بشخوصه وقادته وفرسانه. فما أحوجنا إلى إنسانية ذلك الزمان الذي لم يكن يعرف أي مواثيق دولية لحقوق الإنسان، ولكنه يدرك الإنسانية بالفطرة. ولم يعرف جيرة الحدود السياسية والوصولية، لكنه الآن فقط يعي أن تكون غزة قريبة، وغريبٌ إدراكها وإنقاذها من المجازر، فلا عجب، فهذه مصر عبد الفتاح السيسي، وليست مصر صلاح الدين.

أما المآسي فعلى ما نظل نكتشفه بين حينٍ وآخر، ويجبرنا أن نلوك علقم تصاريف السياسة، ويفرّق رغماً عن كل شيء بين شعبين شقيقين. وعلى الرغم من التظاهر بالودّ إلّا أنّ في النفوس شيءٌ من حتى، فلا يُغضّ الطرف عن الحساسيات وتبادل الاتهامات، ولا يُزال سوء الفهم يسيطر على التعامل من منطلق المصالح والتودد إلى العدو.

لا بد من صدمة توقظ الضمير العربي، وتوحّد وجدانه، بعد الفشل في توحيد أوطانه، ليرى الجميع أنفسهم في مرآته التي لا تكذب، ولا تجمّل القبيح، بل تُظهر القبح المخفي خلف الجمال المصطنع. ولتعلن الحرب على التشرذم، انتصاراً لهوية واحدة هي هوية الشعب العربي، الجامعة له في تعدده وتنوعه، وقوته الكامنة بتنشيط هاجس الانتماء والضمير القومي.

نعم في الأمر دهشة، فكبت حالات الوضوح إحدى مغيبات الوعي، ومظهر من مظاهر التعطيل الكلي للحواس التي نعاني منها الآن.

8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.